مسقط، سلطنة عمان إن السياسات الاستئصالية والأحادية التي ظل ينتهجها المؤتمر الوطني طيلة سنوات حكمه الكالحة أودت بجنوب السودان إلى الإستقلال عن ربقة النخب الشمالية التي كرّست للإستعلاء العروبي والإسلاموي والذي بلغ مداه خلال الواحد وعشرين عاماً الماضية بعدما صورت النخبة الشمالية الإسلاموية، عقب إنقلابها المشؤوم في 30 يونيو 1989م، الحرب التي دارت رحاها في الجنوب على أنها حرب مقدسة وجهاد وحشدت لها الآيات الجهادية والأشعار العربية الحماسية من شاكلة (يا نفسي مالي أراك تكرهين الجنة) و(ميتنا في الميدان شهيد). ذات السياسات الاستئصالية والأحادية تدفع باجزاء أخرى مما كان يعرف بالسودان (الوطن الواحد) إلى نفس الوجهة التي يتجه، وقيل اتجه، إليها فعلياً جنوب السودان (الإستقلال من ربقة النخب الشمالية التي كرّست للإستعلاء العروبي والإسلاموي). ليس إنفصال (إستقلال) جنوب السودان ووقوف أجزاء أخرى مما كان يعرف بالسودان (الوطن الواحد) على رصيف الانتظار هي الثمرة المرة الوحيدة للمشروع السياسي للنخبة الإسلاموية. فالثمار المرة لهذا المشروع -وما اكثرها- تظهر إجمالاً في مقولة الأمين العام للحركة الشعبية ووزير شؤون مجلس الوزراء الأسبق السيد باقان أموم أكيج حين وصف الدولة السودانية ب(الفاشلة والفاسدة). فهذا المشروع قد أشعل الحروب في أركان البلاد الأربعة وارتكب خلال هذه الحروب جرائم الحرب والجرائم الموجهة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية فصدرت بحق رئيس الجمهورية رئيس حزب المؤتمر الوطني مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية موجهة إليه تلك التهم صراحة. وبسبب هذه المذكرة أصبح رأس الدولة مشلولاً عاجزاً عن ارتياد العديد من المطارات العالمية والإقليمية والمطارات المجاورة، وأي فشل أكثر من هذا؟! وقسمات هذا الفشل بينة أيضاً في روح الفساد والإفساد المستشرية في أوصال أجهزة الدولة السودانية وفي إنهيار الخدمات العامة كالصحة والتعليم وكل أوجه الحياة. هذه الحالة من انسداد الأفق التي يعيشها الشعب السوداني منذ الساعات الأولى لانقلاب الإسلاميين المشؤوم ما انفكت تتفاقم يوماً بعد يوم دون بارقة ضوء واحدة في هذا النفق المظلم. هذه الحالة جعلت المراقبين للشأن السوداني يظنون بمركز السلطة في المؤتمر الوطني ظنون الانقسام والتكتل في أجنحة يتقوى كل جناح فيها على الآخر بما كسبه من السلطة أو بالأفخاذ العشائرية التي تنحدر من الطيف القبلي المكوِّن لهذا المركز السلطوي أو بالأقلام (المتوضئة) المسخرة لإدارة هذا الصراع دون المساس بكعكة السلطة نفسها. وفي هذا السياق قرأنا مقالات صحيفة الإنتباهة الشاتمة لنائب رئيس الجمهورية ولمستشاره للشؤون الأمنية لنقرأ بعدها وفي ذات الصحيفة مقالات معتذرة لهذين المسؤولين عن ذلك السباب في تجلٍّ فريد للمثل الدارج (يفلق ويداوي). لكن بالمقابل فإن حالة انسداد الأفق هذه كان من الطبيعي أن تؤدي إلى بروز دعوات مراجعة لمجمل هذه السياسات الاستئصالية الفاشلة ومن داخل (الآلة) التي تحيك هذه السياسات نفسها. هذه الدعوات وإن هاب أصحابها-في مركز السلطة داخل المؤتمر الوطني- الجأر بها، جأرت بها أقلام منسوبة للحركة الإسلامية حافظت لنفسها على مساحة من الاستقلالية عن مركز السلطة في المؤتمر الوطني مستفيدة، في ذات الوقت، من هامش الحريات الذي يضيق ويتسع وفق تقديرات أولي الأمر ومن تاريخ خدمة طويل في صفوف الحركة الاسلامية يحترمه أولو الأمر أو لا يزالون إن شئنا الدقة وعدم الافراط في التفاؤل. وفي هذا الإطار نقرأ مقالات البروفسير الطيب زين العابدين ومقالات للدكتور التيجاني عبد القادر وللدكتور خالد التيجاني النور. فالبروفسير الطيب زين العابدين وفي مقالته (الحركة الإسلامية ووحدة السودان، الصحافة 1/8/2010م) وجه انتقادات صريحة إلى المؤتمر الوطني وحمّله صراحة مسؤولية الانفصال حيث قال (وتتحمل الحركة الإسلامية -أو القيادات المتنفذة فيها- المسؤولية الوطنية والتاريخية لانفصال الجنوب الذي يحدث بعد عشرين سنة من حكم الإنقاذ! وقد بذلت الحركة الإسلامية منذ مطلع الثمانينيات جهداً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً لتحافظ على وحدة السودان في حال تمكنها من السلطة، ولم تكن سلطة الإنقاذ وفية لذلك التراث مثل ما لم تكن وفية لقيم ومبادئ الإسلام في الحكم ورعاية المال العام). إلى أبعد من ذلك يذهب البروفسير إلى القول بأن المجموعة الحاكمة من الحركة الإسلامية تنازلت عن ذلك التراث الفكري للحركة الإسلامية الرامي للحفاظ على وحدة السودان-حسب زعمه- بل أججت الحرب ضد الجنوب وأعطتها طابعاً دينياً جهادياً (راجع نفس المقال). جدير بالانتباه إنه عزا هذا التنازل إلى طبيعة سلطة المؤتمر الوطني الانقلابية التي تراجع فيها دور أهل الفكر والنظر لحساب قيادات الجندرمة والأمن والاستخبارات، على حد تعبيره. أما في مقالته (البحث عن أسس جديدة للوحدة الوطنية، الصحافة 22/8/2010م) نجد أن البروفسير الطيب زين العابدين يصوغ رؤية سياسية تضع في اعتبارها التنوع العرقي والديني والثقافي لشعوب السودان. حيث دعا إلى الوحدة الطوعية القائمة على الوصول بالحكم المركزي إلى مداه وإطلاق يد الحكومات الإقليمية في حدود أقاليمها لتكوّن مجالسها التشريعية وجهازها التنفيذي وتُعْطَى الصلاحيات الكاملة في سن القوانين والتشريعات دون تدخل من الحكومة الاتحادية. غير أن عرق الاسلام السياسي الدساس يأبى إلا أن يطل في ذات المقالة وإن تخير البروفسير لقلمه لون الحبر الذي يكتب به (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)!! فنجده يقول (في ذات المقالة الفقرة 3) بتقسيم السودان إلى تسعة أقاليم على أساس المديريات التسع التي كانت قائمة في الماضي (دارفور، كردفان، الأوسط، الشمالية، الشرق، الخرطوم، أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية). تقسم هذه المديريات بين الشمال (ست مديريات: دارفور، كردفان، الأوسط، الشمالية، الشرق، الخرطوم) والجنوب (ثلاث مديريات: أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية) بمظنة أن تختار المديريات الشمالية (مجتمعة) أن تحكم بالشريعة الإسلامية وبتقرير ما هو معلوم بالضرورة وهو استحالة حكم الجنوب بالشريعة الإسلامية. ويلف البروفسير دعوته هذه بسودان موحد يقوم على رئاسته مجلس رئاسي خماسي بسلطات رمزية تتمثل فيه أقاليم السودان (على حد تعبيره) تدور رئاسته بين أعضائه سنوياً، مع رعاية حقوق الأقليات عبر مفوضية مشتركة. هذه الرؤية وان استبطنت الحفاظ على وحدة السودان إلا أنها تعيد انتاج ذات الأزمة التي أودت بما كان يعرف بالسودان إلى التقسيم بصورة تختلف في المظهر لا الجوهر. حيث أن الشيطان الذي يسكن تفاصيل هذه الأطروحة سيخرج من قمقمه لحظة تطبيقها عملياً. فحسب رؤية بروفسير الطيب زين العابدين وإذا حدث أن اختار الشمال بمديرياته الست الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية سيصبح المجلس الرئاسي الخماسي الذي تقترحه ذات الأطروحة غير ممكن عملياً إذا ما جاء الدور في الرئاسة على أعضائه الجنوبي المسيحي او الشمالي العلماني. فمن يختار حكم الشريعة الاسلامية لا يقبل بأن يحكمه شمالي علماني وإن تحدر من أكثر بيوت الشمال استعراباً أو اتصل نسبه بالعباس أو ربما لا يقبل بأن يحكمه جنوبي وإن تعلق قلبه بالمساجد. فهي ذات الدعوة التي أطلقها رئيس الجمهورية في مدينة القضارف بتاريخ 19 ديسمبر في خطابه الذي بشرنا فيه بانتهاء (دغمسة التنوع الديني والعرقي) صبيحة يأسه من أن يصوت الجنوبيون للوحدة وغداة غضبته المضرية من ويكيليكس. وهو ذات الخطاب الذي انتقده البروفسير الطيب زين العابدين نفسه في مقالته الموسومة (رجال الإنقاذ والوعيد الثلاثي، الصحافة 26/12/2010م) حيث قال (نزلت علينا في يوم واحد (الأحد 19 ديسمبر) دون مقدمات تهيئ النفوس وعيدات ثلاث من كبار رجالات الإنقاذ في الدولة: وعيد آيديولوجي ديني يتوعد العلمانيين وأنصاف المسلمين والإسلاميين الليبراليين وغير المسلمين والعرقيات الهامشية .... صدر الوعيد الأول من رأس الدولة في مناسبة لا صلة لها بالعقائديات السياسية هي العيد العشرين للحصاد بجانب افتتاح منشآت لجامعة القضارف، قال الرئيس بأن السودان (يعني ما سيتبقى منه) بعد الانفصال سيعتمد دستوراً إسلامياً وسيكون الإسلام هو الدين الرسمي للدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للقوانين وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، ولن يكون هناك مجال للحديث عن تنوع عرقي أو ثقافي (هكذا دون مواربة)). يبقى من الضروري هنا القول بأن ذهاب الجنوب سواءً بالانفصال أو على النحو اللامركزي الذي رسمه البروفسير الطيب زين العابدين أنه سيلغي التنوع الديني والعرقي في الشمال وسيؤسس للحكم بالشريعة الإسلامية سواء جزما أو ظناً يعني أن الحركة الإسلامية السودانية لم تعي أخطاءها ولم تستفد من دروس استقلال الجنوب (عنوة كده واقتداراً) ولم تدرك التجارب الإنسانية من حولنا في الكيفية التي تنبني بها الأمم. وكيف لذهاب الجنوب أن يلغي واقع التنوع في الشمال؟ والبروفسير نفسه قد قرأ غضبة البشير في القضارف على أنها (وعيد للعلمانيين وأنصاف المسلمين والإسلاميين الليبراليين وغير المسلمين والعرقيات الهامشية). فالدولة جهاز مدني ينظم حياة المواطنين كل المواطنين بغض النظر عن ديانتهم أو أنسابهم. والتجارب العملية الحديثة لتطبيق ما يسمى بالشريعة الاسلامية سواءً في إيران أو أفغانستان أو الصومال أو السودان ما أقامت العدالة ولا حققت التنمية وإنما رفدت ذاكرة الإنسانية بأبشع الصور التي أصبحت تتناقلها الوسائط المتعددة للجلد والرجم وقطع الأطراف ودق الرقاب، وجميعها صور تعاف النفس البشرية السوية رؤيتها. فالسودان بجنوبه الذي يتأهب للإقلاع ليس أكثر تنوعاً ولا عدداً من الهند التي يتعايش فيها الهندوس والمسلمون والمسيحيون والسيخ والملاحدة وغيرهم في وطن واحد لهم قدر متساو من الحقوق وليس أدل على ذلك غير أن بالأمس القريب كان رئيس الدولة (زين الدين عبد الكلام) مسلم، تخلفه اليوم (براتيبا باتيل) هندوسية، ويترأس الحكومة حالياً (مانموهان سينج) وهو سيخي منتمٍ إلى حزب المؤتمر الهندي الذي تترأسه سونيا غاندي وهي تعتنق الديانة الهندوسية على الرغم من أصولها الايطالية. Murtada El khalifa [[email protected]]