جمال محمد ابراهيم [email protected] ( 1 ) الذي سطرته السيدة "كلايتون بير"، الموظفة في المكتب الذي عرف ب"مكتب السودان في لندن"، قبل نيل السودان إستقلاله عام 1956، ثم "مكتب المستشار الثقافي" بعد الاستقلال، لا يعدو أن يكون خواطر وذكريات لتجربة حميمة وشخصية، جمعت هذه السيدة الجليلة بكثير من السودانيين الذين قدموا للدراسة أو لزيارة بريطانيا، في تلك السنوات البعيدة. هي كتابة مشوبة بجميل العواطف ورقيق الأحاسيس، مثقلة بكثيرِ ودٍّ ووفاءٍ، لبلدٍ خدمته لأكثر من ثلاثٍ وثلاين سنة، كل سنة مضت زادت من عمق معرفتها بالسودان، واقترابها من بعض بنيه الذين قابلتهم آنذاك. لم تكن لكتابتها مراجع غير ذاكرة حفظت تفاصيل تلك التجربة بعين محبة، وبقلبٍ فتحت شعابه لمن أحبت من السودانيين الأفاضل في تلك السنوات البعيدة. ليس ثمة إشارات مرجعية وهوامش واقتطافات من ملفات أو تقارير. كثير من الإفادات التي وردت في المذكرات، هي شهادات شخصية، تحملتْ مسئوليتها هيّ وحدها، وانطباعات لم تبعد كثيراً عمّا رأت أو سمعت. فهي إذاً ليست كتابة في التاريخ، أو دراسة عن جوانب العلاقات الثقافية بين بريطانيا والسودان، إذ لم تدّعِ منذ البداية، صرامة علمية في العرض، ولا بحثاً أكاديمياً في الموضوع، وإنما كتابة أشبه بسيل خواطر تتدفق من ذاكرة وفية. ( 2 ) حين نظرت في مخطوطة السيدة "كلايتون بير" قبل ترجمتها، كان واضحاً أنها سطرتها حال انهاء خدماتها في مكاتب سفارة السودان عام 1963، ، ولكن فيما يبدو أنها أستبقتها في أضابير بيتها زمانا. ثم لاحظتُ أنها أضافت لاحقاً، وبعد نحو عشرين عاما، الكثير من الوقائع التي جرت في عقد السبعينات وبعض سنوات الثمانينات، وأنهت صفحات ذكرياتها بوضع إسمها في آخر صفحة، وكذلك التاريخ الأخير تحته: سبتمبر 1983، وبعد ذلك أودعت المذكرات سفارة السودان في لندن. لقد صادف أن وضعتُ يدي على صورة هذه المخطوطة في إحدى خزانات ملفات سفارة السودان في لندن، إبان عملي في الفترة بين 2000 م و2004م، نائباً لرئيس البعثة الدبلوماسية هناك. حفظت نسخة منها لأستعين بها في معرفة أحوال منازل "روتلاند قيت" المملوكة لحكومة السودان، والمعروفة بإسم "بيت السودان"، في منطقة "نايتسبريدج" المرموقة في وسط لندن. لقد كانت من مسئولياتي- وأنا الرجل الثاني بالبعثة الدبلوماسية، بين عام 2000م و2004م، مساعداً للسفير د. حسن عابدين وقتذاك، الإشراف على ملف هذه المنازل المسجلة ملكاً حرّاً لحكومة السودان. ولقد سعدت بهذا الذي كتبته السيدة "كليتون"، فقد قدمت لنا رصداً دقيقاً، ومفصلاً لبدايات العمل المؤسسي للإشراف على المبعوثين السودانيين، بعد العقد الثالث من القرن العشرين وأثناء الحرب العالمية الثانية، ومن مقر هذه المنازل، والتي عرفت بإسمها الشهير "بيت السودان" في لندن، وحكت بتفصيل مدهش، كيف تشعّبت هذه المهام، وكيف كبرت المسئوليات. ويبدو أن المذكرات بقيت في حرز السفارة، طيلة السنوات الأخيرة ( من 1983 وإلى تاريخ اصدار هذه الترجمة )، ولم يلتفت إليها أحد. ( 3 ) هذا الكتيب جهد فكري خالص للسيدة الراحلة "كلايتون بير" ، وبرغم أنها أهدت مذكراتها التي سجلتها في هذا الكتيب، للسودانيين الذين عرفتهم في ذلك الزمان، وبرغم ايداعها لمخطوطة مذكراتها عن تجربتها في العمل بمكاتب حكومة السودان في لندن، مهداة إلى سفارة السودان هناك بمحض إرادتها، بل وبمثابة تعبير عن تقديرها وعن وفائها لمن عرفت ولمن عملت معهم في ذلك المكتب، كان لزاماً عليّ مراعاة مقتضيات حقوق الملكية الفكرية، مطلوباتها ومحاذيرها. وبما أن المخطوطة لم تنشر على الملاء، في نصّها باللغة الانجليزية حسب تقديري، كما أنها لم تكتب أصلاً بقصد نشرها أو الاستفادة منها تجارياً، فقد رأيت في إقدامي على نشر هذه الترجمة، إكمالاً ووفاءاً للغرض الرئيس الذي حدا بالسيدة "كلايتون بير" كتابتها وإهداءها، إلى السودانيين وإلى مكتب حكومة السودان، ولاحقاً وبعد الاستقلال، إلى سفارة السودان في لندن. ولعل نبل الهدف من اتاحة هذه المذكرات إلى الذين عرفوها وجلّهم سودانيون، هو ما يجعل هذه الترجمة العربية في تقديري جهداً إضافياً يساعد في أن تصل رسالتها إلى من قصدت، فيعرف السودانيون عامتهم ، ما جاء من هذه المرأة الرائعة الوفاء. ولقد أنجزتُ الترجمة ملتزماً بنصها دون تدخل يذكر، إلا ما اقتضته ضرورات اللغة العربية ، كما قسمتُ المذكرات لأجزاء وضعت لها عناوين جانبية لسهولة الإطلاع. ( 4 ) كنّا في سفارة السودان وقتذاك، على علمٍ بقصة منازل "روتلاند قيت" ، وبرغم ذلك ظللنا نسمع حكايات يتناقلها السودانيون الذين مرّوا على السفارة في السنوات السابقة، أو في السنوات القريبة، من كون هذه المنازل قد اشتراها لصالح المبعوثين السودانيين في لندن ، الإمام الراحل عبد الرحمن المهدي، في زيارة له إلى لندن، أوائل الخمسينيات من القرن العشرين. ولعل مثل هذا الحديث، يعكس محبة كبيرة وتقديراً مستحقاً للراحل الكبير، بما صار معه اقتران اسمه بكل فعل خيرٍ، أمراً رغبوياً يتمناه السودانيون من زعيم له في الوجدان مكانة، خاصة وقد شهد له التاريخ تدخلاً مؤثراً فيما يتصل بأحوال طلبة كلية "غردون" في الإضراب الشهير في ثلاثينات القرن الماضي. ولا يعدو حديثنا هنا، عن محاولة وضع الأمور في موضعها التاريخي الصحيح. وقد قدمت السيدة "كلايتون" شهادة بقلمها عن الحيثيات التي صاحبت شراء منازل "روتلاند قيت" الثلاثة في لندن، قبيل سنوات قليلة من عام الإستقلال، بواسطة السكرتير المالي لحكومة السودان، وهو الساعد الأيمن للحاكم العام البريطاني، ولم نرَ موجباً للتشكيك في رواية هذه السيدة، فهي بريطانية وبعيدة كل البعد عن تعقيدات السياسة السودانية والحركة الوطنية وقتذاك . لربما بادر السيد الإمام الراحل بتقديم دعم أو هدية ل"بيت السودان"، في جولة تفقدية، للتعرف على أحوال المبعوثين ، في إحدى زياراته إلى لندن. وعلى أية حال لم تكن مبادرات الإمام الخيرية، تقف عند مشروع واحد، هنا أو هناك، بل هي مشهودة، وعلى مستوى الوطن كله . ( 5 ) كانت لمكتب حكومة السودان في لندن، خاصة في السنوات التي سبقت الإستقلال، مهمة رئيسية تتصل بتجهيز الإداريين البريطانيين الذين يتم اختيارهم للعمل في السودان ( أشار إلى ذلك السير هارولد ماكمايكل إلى ذلك في كتابه"السودان "، والذي ترجمه الأستاذ محمود صالح عثمان صالح ، وصدر عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، عام 2006)، وهو عمل كان يجري تنسيقه بالطبع، مع وزارة الخارجية في لندن. أوردت السيدة "كلايتون بير" تفصيلات مدهشة عن هذه المهمة. ولعل اللافت أيضاً غياب طلاب مبعوثين من جنوب السودان خلال تلك الفترة التي غطتها مذكرات السيدة "كلايتون بير"، ومعروف أن ذلك يتصل بالسياسة الكولونيالية تجاه جنوب السودان، ورؤية الإدارة البريطانية له . قانون المناطق المقفولة وحده، يكفي للدلالة على مكر هذه السياسة. أشار السير "جيمس روبرتسون" في كتابه السودان: من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال ، تعريب مصطفى الخانجي ، الصادر عن دار الجيل عام 1966 ، والسيد روبرتسون هو أحد دهاة الإداريين البريطانيين في السودان، إلى أنهم تلقوا انتقادات ولوم من طرف مصريين وسودانيين، في منتصف سنوات الأربعينات من القرن العشرين، إلى جهة استعمال اللغة الإنجليزية ولغات محلية للتدريس في الجنوب، وتفضيلها على اللغة العربية، وإرسال الطلاب للتعليم في يوغندا، بدلاً من إرسالهم إلى كلية "غردون" التذكارية في الخرطوم. جاء في كتاب ك. د. د. هندرسون :"كيف أعد السودان:حياة ومراسلات السير دوقلاس نيوبولد - جزء1-القسم الثاني، أن السكرتير الإداري "دوقلاس نيوبولد" زار يوغندا في عام 1944، وقضى أياماً في جامعة ماكريري، وأبدى حماسا لجهود "ماكريري"، وكان يراها:((مؤسسة نشطة وفريدة، مصدر قوة ثقافية لشرق أفريقيا..)) ، بل وأبدى حماسا لإلحاق طلاب من جنوب السودان بكلية "ماكريري" في يوغندا، (( آملاً أن تتمتن العلاقة مع ماكريري..)) لقد استوقفني أمرٌ آخر، ربما ليس على ذات القدرمن الأهمية ، ولكن أثار عندي شهية لاستقصائه، وهو عدم الإشارة - في كل ما حكت هذه السيدة من تاريخ "بيت السودان" - إلى أول مواطن سوداني التحق ب"مكتب السودان في لندن" ، وبعد عام أوعامين من انتهاء الحرب العالمية الثانية، في وظيفة متواضعة، ولكنها أكسبته مع مرور الزمن خبرة، أشبه بخبرة السيدة "كلايتون بير"، وصار رمزاً وعلماً لدور السفارة السودانية في رعاية شئون السودانيين في لندن. ذلكم هو السيد عثمان يوسف، أو كما يعرفه السودانيون "عثمان سفارة". ما من أحد- خاصة من أفراد الجالية والمقيمين في لندن- لا يعرف أو لايكون قد سمع بالسيد/عثمان "سفارة"، إلّا - ربما – السيدة "كلايتون بير" ! معروف عن العم عثمان أنه منح ذات الوسام الذي حملته السيدة "كليتون" ، وهو وسام عضوية الامبراطورية البريطانية(M.B.E. ). ولعلّ مقدمتي هذه تستثير العم "عثمان سفارة" – أطال الله أيامه- ليفصح عن دوره الذي بدأ متواضعاً في أواخر سنوات الأربعينيات من القرن العشرين ، ولكنه قطعاً عاصر السيدة "كلايتون بير"، وكل الشخصيات التي وردت أسماؤها في كتاب ذكرياتها ، ولديه ما يمكن أن يضيفه، فيما لو آثر أن يسجل هو أيضاً، ذكرياته عن عمله الطويل في سفارة السودان في لندن ، و"بيت السودان " بوجهٍ خاص. ( 5 ) إن المكتبة السودانية لا تحفظ الكثير من ذكريات المبعوثين الأوائل، من السودانيين الذين وفدوا إلى بريطانيا، وذلك طبع سوداني جبلنا عليه فيما رسخ، فصار أكثر تاريخنا محفوظاً في الذاكرة، نتناقله لساناً إلى أذن ، لا حرفاً تلتقطه العين إلى الذاكرة، ليبقى منحوتاً في كتاب التاريخ . أرسخ ما بقي في الذاكرة عن تجارب ووقائع سجلها سودانيون، في النصف الأول من القرن العشرين أو بعده بقليل ، كتاب حياتي لبابكر بدري، وكتابَي "ذكرياتي في البادية" و"ملامح من المجتمع السوداني" لحسن نجيلة، ثم لاحقاً ما كتب الراحل خضر حمد "الحركة الوطنية السودانية- الاستقلال وما بعده" ، ط 1 1980، والراحل محمد أحمد محجوب:"الديمقراطية في الميزان"، وكتاب الراحل أحمد محمد يس :"مذكرات" ، ط1 ،2001م – مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية – جامعة أم درمان الأهلية، وكتب قليلة أخرى لبعض رموز الحركة الوطنية الآخرين. كتاب ذكريات السيدة/"كلايتون بير" يكتسب قيمة إضافية، إذ هو شهادة قلم أجنبي، توخى الموضوعية في السّرد ، والنزاهة في التقييم ، ولكن عين المَحبة عن كل عيبٍ كليلة ، ولقد كانت عينُ السيدة "كلايتون بير" عيناً عاشقة للسودان وللسودانيين . . الخرطوم - مارس 2011