في الخامس من أكتوبر من العام المنصرم تناولت الباحثة رباح الصادق المهدي فكرة من كتابي " الصادق المهدي وأزمة الديموقراطية في السودان" تقول بأنها كانت السبب في إثارة النقاش. هذه الفكرة تتكون من شقين: أولا، الفكرة المتعلقة بالناس العاديين ودورهم في تشكيل مستقبل البلاد وحرمانهم هذا الحق من قبل أفندية المدارس الذين يعتبرونهم مجرد غوغاء تسلبهم الطائفية أو القبلية لبهم إلى أن تقول "ولكني أظن من الخطل النظر للناس كل الناس باعتبارهم رعاع لا يؤبه لهم يساقون كالسوائم فقط لأنهم لم يتعلموا في مدارس كتشنر أو مدارس المؤتمر الأهلية" والحق أقول إن ما توصلت اليه الأخت رباح في هذه الخلاصة هو عكس تماما لما تحتويه الفكرة التي طرحتها في هذا الكتاب وفي الكتب التي تلته خاصة في كتابي "الهوية وتمزق الدولة السودانية" وهي أن معظم المتعلمين السودانيين الذين توجهوا لقيادة البلاد سياسيا نجدهم قد أحاطوا أنفسهم بهالة وقدسية وأوهموا به العامة من السودانيين وما زالوا ليستمروا في الحكم وهم السبب الرئيس في تدهور بلادنا. وتواصل رباح فكرتها الثانية في ذات الإتجاه ضاربة المثل بقولها " فحوادث مارس لم تهمل، لقد شوهت وصارت سبة في وجه الأبطال الذي ساموا الروح رخيصة من أجل الاستقلال. ومن هذا يفهم بأني وراء ذلك التشويه بل وقلب "حقائق تاريخنا، وجعل صفحات بطولاتنا هي إما دك الرجعية أو قتل البرابرة" والحق يقال إن ما وصلت إليه رباح هو عكس تماما لما توصلت إليه. الحديث عن المتعلم السوداني ودوره السياسي يحتاج منا إلى دراسة متأنية وعميقة ليس مجالها الصحف السيارة أو الشبكة العنكبوتية وأكتفي بإشارات هنا وهناك ولمن أراد المزيد فليتوجه إلى كتابي المذكورين أعلاه. إعتمد المتعلم أو الأفندى السودانى على المستعمر وآيديولوجياته التى اخترعها من أجل شرعيته للحكم بعد رحيله وطبق نظرته الثقافية القائمة على الاستعلاء العرقى وعلى عزل الثقافات الأخرى على الرغم من رفضه الادارة الأجنبية. فقد نشأت فئة برجوازية استهلاكية ان صح التعبير من رحم فئة الأفندية ومن أسرهم المباشرة والممتدة الى البطون والعشائر والذين بحكم تعاونهم مع المستعمر تكونت لديهم ثروة اقتصادية قوامها الأراضى الزراعية والاحتكارات التجارية وأصبحوا بذلك أكثر السودانيين احتكاكا بالغربيين ويميزهم فى ذلك السلوك الغربى كما ذكر العميد بدرى في مذكراته. تميزت هذه الفئة بالتنافس على مناصب السلطة عسكرية كانت أم مدنية وفق نفس الرؤى للخطاب السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذي إتبعه المستعمر وفق مفهوم فرق تسد. ومع زيادة الاحباط الناتج من تعثر التنمية بين أقاليم البلاد وكثرة الالتزامات والواجبات فى غياب أبسط الحقوق تصاعدت وتيرة الحرب الأهلية في السودان ثم تصاعدت النعرات القبلية والاثنية عندما رجع هؤلاء المتعلمون الى مجتمعاتهم القبيلة يطلبوا منها السند السياسي بحجج التباين الثقافي والعرقي وهم في قرارة أنفسهم يهدفون الى الحفاظ على مكاسبهم الذاتية وليس مصالح أقاليمهم. وكما يقول ترمنقهام فى نقده للمتعلم السوداني "إن التعليم الغربى وأسلوب الحياة الغربية أدخله فى انفصام ولم يؤد الى بناء شخصية متكاملة لديه لأداء وتنمية روح العمل" من ناحية أخرى يقول الشاعر التجاني يوسف بشير محقا في الفئة التي أرادوا أن نقدسها ونمجدها والت ورثت المستعمر في الحكم " الواقع أنّ السودان اليوم على رغم ما يروجون عنه من دعاية للفكر كاذبة ليس هو إلا بلدا لا سلطان للفكر فيه بحال وليس يألف –أن اتفق له من هذه الحياة (الفكرية) شي- إلا أخفها على العقل وأيسرها على النفس وإلا أطرافا من الفكر." ويواصل حديثه عن من يدعي القيادة الفكرية بأنهم مهتمون بكتبات لا قيمة لها ولا تجذب النظر" في اشارة واضحة الى التسفيه والاحتقار لما يكتبون. ويصل في حديثه الى وصف أولئك المتعلمين بالأنانية والذاتية الضيقة حين يقول " الحق أنّ المكلفين بقيادة الفكر فى هذا البلد قوم لا يقودون إلا أنفسهم الى الناس فى ألوان من الكتابات ليس لها من القيمة ما يهيئ لها النفوس ويستلفت لها النظر." الا ترى عزيزي القارئ أن شاعرنا ما زال حيا بفكره ووجدانه تجاه الأفندي السوداني اذا ما نظرنا الى الأنانية التي تميز هؤلاء المتعلمين وابتعادهم عن تعاطي الفكر وتطبيقه من أجل الارتقاء بانسان السودان. بهذا يكون المتعلمون السودانيون قد تقبلوا ما شعروا بأنه مفيد لهم على أن لا يؤثر سلبا فى حياتهم الدينية لهذا ما تم قبوله من الحضارة الغربية لديهم هو شكلها المتمثل فى التطور المادى وليس محتواها المتعلق بالأخلاق لتكون النتيجة النهائية أن أصبح المتعلم يعانى اضطرابا عقليا وروحيا." كأني بشاعرنا الفحل يتحدث عن المتعلم السوداني في نهايات القرن العشرين مما يؤكد استمرار العقلية الفجة والسطحية بين المتعلمين السودانيين. فاذا ما أضفنا الحالة التي وصلت اليها الدولة السودانية من تفكك نتيجة للنزاعات العرقية والاثنية التي يقودها السياسيون المتعلمون من أبناء الهامش وهم يستندون على الاختلافات الاثنية لوضح لنا الضجر واليأس الذي عايشه شاعرنا الفحل وهو يرى حالة زملائه الأفندية من أوائل المتعلمين السودانيين. ويذهب التجاني الى أبعد من ذلك حين لا يرى في من يدعي المعرفة من أؤلئك المتعلمين الا القشور ويصفهم بأنهم من المتعلقين فقط بهامش الفكر وأخفه على العقل وبالتالي فهو يرفض الادعاء بأن في السودان فكر. لهذا نجد التعالي وسط معظم المتعلمين السودانيين وإبتعادهم عن مجتمعاتهم المحلية مما إنسحب سلبا في سياساتهم التنموية والتعليمية والإعلامية والثقافية التي اقتصرت عليهم وعلى مناطقهم. تاريخ السودان بعد 1956م ملئ بالإخفاقات والهزائم بسبب هذا الإنسان المتعلم وأنانيته في إحتكار السلطة والثروة أسريا ثم قبليا بعد نظام الإنقاذ والذي يقف كأكبر شاهد على أنانية المتعلم ونظرته الإقصائية القائمة على القبلية. أما عن أحداث مارس فقد وضح جليا كيف أن المتعلم السوداني عمل على إلصاق تهمة البربرية والفوضى على المواطن العادي خاصة من الأنصار والذين كانوا ينادون بإستقلال بلادهم بدلا أن يكونوا تابعين لمضر كما أراد آخرون. ولم تقف الحال على ذلك بل من كان راضيا بالتبعية أصبح عبر المتعلم هو الوطني الغيور ورافع علم الإستغلال وفي ذلك ظلم كبير لم يقف عند المتعلم وعنجهيته بل يمتد إلى الفئة المحسوبة على أولئك الأبطال الذين لولاهم لكان السودان جزءا تابعا لما يسمى وحدة وادي النيل. فماذا يا ترى عملت قيادات الأنصار وحزب الأمة لترفع هذا الظلم عن هؤلاء الأبطال؟؟؟ الحقيقة لا شئ بل تمادت في تجاهلهم كما أثبتت أحداث لاحقة في 1976م وفي 1985م وفي 2000م عندما شردوا في أصقاع الأرض وانضمت بعض قياداتهم من المتعلمين وأسرة الإمام المهدي إلى النظام الحاكم. إن مأساة الأنصار ليست في من يعارضونهم تاريخيا ولكن مصيبتهم الكبرى تأتي من داخل قياداتهم وهذا أمر يطول الحديث فيه. فى 9 يناير 1954 قامت الوزارة الجديدة للفترة الإنتقالية باداء اليمين الدستورية أمام الحاكم العام برئآسة إسماعيل الأزهري. إختارت حكومة الأزهري أن يكون يوم الاول من مارس من عام 1954م موعدا لافتتاح البرلمان السودانى. وبطبيعة الحال كان لابد أن يحتفل السودانيون بيوم الإفتتاح الذي دعو له ضمن دول أخرى مصر حيث كان اللواء محمد نجيب على راس الوفد المصرى المشارك فى هذه الاحتفالات. بدا واضحا لحزب الأمة أن المساعدات المادية والإعلامية التي قدمتها مصر بعد توحيدها للتيار الوحدوي كانت السبب المباشر في فوز الحزب الوطني الإتحادي لهذا قرر الحزب إسماع صوته وصوت بقية الشعب الرافض للوحدة مع مصر، من خلال مظاهرات منظمة في المطار عند مقابلة اللواء محمد نجيب.هذا الإحتجاج أمر يكاد يكون حاليا هو المعيار الديموقراطي الأول في معرفة رأي الشعوب. ولكن الحكومة السودانية وقتئذ تجاهلت موقف الإستقلاليين هذا وعملت على إخفاء الحقيقة عن الإعلام العالمي وحولت خروج وفد الزعيم المصري من جانب آخر من المطار مما أدى إلى صدامات دامية بين الأنصار والشرطة كانت بمثابة نقطة تحول في موقف إسماعيل الأزهري والبدء في التحول من فكرة الإتحاد مع مصر. وتحت الضغط الشعبي بسبب الرفض القوي لهذا التوجه من قبل معظم الشعب السوداني في مناطق السودان خارج العاصمة بقيادة حزب الأمة، لم يكن أمام إسماعيل الأزهري إلا أن يقوم بزيارات متواصلة لإستطلاع رأي المواطنين خارج العاصمة فيما يتعلق بموضوع الوحدة مع مصر. في هذه الفترة أيضا بدأ الخلاف داخل الحزب الوطني الإتحادي يتصاعد بين الموالين للسيد علي الميرغني والأزهري ويأخذ منحى آخر يدورحول الاستقلال وليس الاتحاد مع مصر. كان يقود هذا التيار بعض الوزراء في حكومة الازهري على رأسهم خلف الله خالد، وزير الدفاع والدرديري محمد عثمان مستشار السيد على الميرغني. ومن خلال الزيارات التي قام بها الأزهري لمناطق عديدة تأكد له ألا مفر من إعلان الإستقلال تلبية لرغبات الغالبية العظمى من السودانيين الذين قابلوه بهتافات الإستقلال والرفض للوحدة. وهذا ما حدث بالفعل حيث إستجابت الحكومة لرغبة مواطنيها ولا يهم التفسير الذي يقول به البعض وهو أن الأزهري في رؤيته أو دعوته للإتحاد مع مصر كان تكتيكا سياسيا هدفه الحصول على موافقة مصر في القبول بتقرير المصير وبعدها يعلن الإستقلال. وهو كما تلاحظ عزيزي القارئ تصور لا ينسجم مع الواقع فقد ظل الإتحاديون لفترة زادت عن الثلاثين عاما ينادون بهذه الوحدة بل إن الزعيم الأزهري كثيرا ما أشار إلى أن يكون السودان ضمن حدود التاج المصري بينما المنادون بإستقلال السودان خاصة حزب الأمة ظلوا متمسكين بهذا الإستقلال وكان شعارهم "السودان للسودانيين" حتى قال فيه الوحدويون بأنه شعار حق أريد به باطل. وبذلك كانت تلك الأحداث هي الشرارة الأولى التي اندلعت لتقود شعب السودان للإستقلال. " المجموعة التي انشقت عن الأزهري كونوا حزبا جديدا سموه حزب الشعب الديموقراطي وبدأوا بالإتصال بحزب الامة الداعي للإستقلال ورفضوا أي اتحاد مع مصر كما كان يعمل الازهري. لقد كان الأزهري مجبرا وليس بطلا في تأييد إستقلال السودان بل كان أنانيا حقا وعمل على أن يربط إعلان الإستقلال بإسمه بعد أن تأكد له إمكانية إعلانه من داخل البرلمان. لهذا فإن مواقف حزب الأمة الرافضة لأي نوع من الإتحاد مع مصر بجانب الصراع بين الأزهري والمنشقين عن حزبه خاصة ميرغني حمزة والذي أصبح منافسا خطيرا للأزهري، أدى إلى أن يغير الأزهري رؤيته من الإتحاد مع مصر إلى الإستقلال التام. abdalla gasmelseed [[email protected]]