بقلم الدّكتور أحمد محمّد أحمد آدم صافي الدّين الحضارات لا ترتقي إلا بالعلم. والميراث العلمي للحضارة الإسلاميّة، لم يكن قد نتج عن فراغ، وإنما كان نتيجة لمجهود يفوق التصور، فالعلماء ما كان بعضهم يعرف النوم ليلاً، يسهرون في التأليف والتدوين والتفكير، وكانت للكتب التي تشكل مصادر المعرفة العلمية معزة كبيرة عندهم. لفرط حبهم وشغفهم بالمعرفة ترك كثير من مشاغل الحياة، ولم يتزوج كثير منهم. ولقد كان لهذا اثر في الارتقاء بالمعرفة العلمية. يقول تعالى: :{ وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (سورة النحل78. حيث تشير الآية إلى أن الإنسان قد انعم الله عليه بنعم كثيرة، وهي تتطلب المعرفة والشكر، وذلك أمر ينبغي فعله خلال رحلة الحياة، وتعلمه يكون على درجات، يتفاوت الناس فيها. فقد يكون نصف عالم، وقد يرتقي إلى ذرى سلم المجد العلمي فيفيد ويستفيد، وقد يبقى على جهله. والجهل كما هو معلوم جهلان: جهل الإنسان بنفسه، وجهله بالآفاق؛ والمجهولان هما: هما الإنسان والكون. فالإنسان جهول لنفسه، وعدو لها بسبب هذه الجهالة، والكون مجهول منه كذلك. إن جهل الإنسان بنفسه، أعظم وأكبر من جهله بما حوله. والعلم علمان: علم الكون المنظور، وعلم الكتاب المسطور. فمن يدركون علم الكون المنظور(الآفاق) يعرفون خصائص المادة، ويحققون الرفاهية في الماديات. ومن يعلمون علم الكتاب المنزل المسطور(القرآن)، يدركون من خلاله الكون المنظور؛ متى ما استجابوا للدعوة للنظر والتفكر والتأمل والتدبر. فسطور الكائنات هي دليل لا يخطئ صحيح المعرفة، وهي آية الله التي لا تخفى لمن كان له قلب. إن الوحي المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كان قد ابتدأ نزوله بلفظة(اقرأ)، وهي أمر لا تخفى دلالته. والقراءة قراءتان: قراءة ما في السطور، وقراءة ما في الكون المنظور. فقراءة ما في السطور، تقود إلى قراءة ونظرة صحيحة لهذا الكون المنظور. فالقرآن يحفزنا من خلال العقل على التفكر والتدبر والنظر، إعمال النظر لتحقيق المناط للوصول إلى صحيح المعرفة التي تمكننا من أن نعيش حياة تسودها السكينة وتغشاها الرحمة. فالإنسان في دنياه يحيا حياتان؛ حياة مادية هي حظا البدن، وحياة معنوية تتعلق بالقيم . فالناس موتى وأهل العلم أحياء، بسبب ميراثهم الذي يخلفون، وسائر الناس منهم أموات في ثياب أحياء، يأكلون ويشرون. والموت موتتان: أولاهما يذوقها الإنسان وهو يأكل ويشرب، فهو ميت في ثياب حي، وثانيهما هي الموتة الحقيقة التي يخرج بموجبها الروح من البدن. والنظرة نظرتان: نظرة البصر، ونظرة البصيرة. فالأبصار لا تعمي ولكن تعمي القلوب التي في الصدور كما تشير محكم آيات التنزيل. ولطالما أن القرآن يشكل نصه الدليل، فان الجمع بين الجهلين سبة تزري بالكرام، والجمع بين العلمين فوز ونجاح، والجمع بين القراءتين، بل توحيدهما يحقق الإبداع والارتقاء. وأن يجمع الإنسان بين الحياتين تتحقق له السعادة. وفي اتقاء أشر الميتتين أمر مطلوب. إن مفردة (القراءتان) هي شعار تبناه معهد الدراسات المعرفية بالقاهرة. فهو معهد يسهم في نشر الفكر الاسلامي الخالص، ومديره الدكتور عبد الحميد أحمد أبو سليمان، مؤسس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وهو مدير سابق للمعهد العالمي للفكر الاسلامي بواشنطن. لعل الفكرة استلت من بنات أفكار المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد. فقد صدر له كتاب العالمية الإسلامية الثانية، وقد تضمن الكتاب هذه الرؤية الفكرية. وقد قدم الدكتور طه العلواني تلخيصاً للكتاب جاء فيه: إن العقلية العربية، عقلية الإنسان العربي، إنسان العالمية الثانية سوف تتشكّل عبر منهجية (الجمع بين القراءتين) ثم (التوحيد بين القراءتين) حيث لا يكون هناك انقسام بين الغيب والطبيعة، وإنما يكون هناك الاتصال الواضح والدمج الكامل، الذي يقوده القرآن الكريم ليجعل الإنسان قادراً على البحث عن الناظم المنهجي في سور القرآن وآياته ليقترب من فهم "منهجية القرآن المعرفية" التي هي الأصل في (مفهوم الشمولية القرآنية). وأشار إلى أن قضية الكتاب الأساسية، التي هي قضية المنهجية المطلوبة لبروز العالمية الإسلامية الثانية، وظهور الإسلام على الدين كله، واستعلاء كلمة الله مرة أخرى في الأرض. ومضى إلى القول أنّ أهم أبعاد الأزمة الفكرية، وأهم جوانب الأزمة المعرفية كانت تكمن في طريقة تعاملنا مع القرآن الكريم، وهي حقيقة لم تكن غائبة عن مدرسة إسلامية المعرفة، ولكن كان الغائب هو (كيفية اكتشاف منهجية معرفية قرآنية) بحيث تكون هذه المنهجية القرآنية معالجة جادة لأزمتنا الفكرية ولأزماتنا المعرفية والثقافية والتشريعية. كما أن في الكتاب يستمد كثيراً من أهميته من أنه محاولة منهجية لبيان كيفية التعامل مع القرآن، ولوضع أقدام الباحث على أول الطريق المنهجي في التعامل مع القرآن الكريم. وفي قراءة القرآن عبرة لمن يعتبر، من خلال دوام الفكر والنظر، ولكن الإنسان لغفلة تستولي عليه، لا يعظه واعظ صامت أو ناطق، والمعصوم من عصمه الله. torshain Adam [[email protected]]