من لم يتابع كتابات الدكتور أحمد إلياس حسين، الباحث والمؤرخ واستاذ التاريخ، التي ظلت تتراتب في الصحف اليومية منذ عدة سنوات ، أو من لم يطالع سفره الصادر في رباعيته التي تنتظر الاكتمال والمسماة: "السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية،" فهو ناقص المعرفة بهوية الوطن وأصول أهل الوطن .. فقليل من الكُتّاب والبٌحّاث حاولوا سبر غور التاريخ الإثني للسودان، ومن حاول منهم اصطدم بعقبات كئود، أهمها غياب المرجع، وشح المواريث. ولهذا فإن من بادر من المؤرخين رجع في سعيه بالقليل، فاكتفى ببعض السرد لما هو مثبت في بعض اجتهاد الرحالة والمستكشفين الأول، وهو اجتهاد أكثر ما يمكن القول عنه أنه جهد عابر سبيل، ربما ضل عن الطريق. هَمُ البروفيسور إلياس بالأصول والمنابت ليس جديداً، فالرجل باحث متعمق أغرق سنوات عمره الأكاديمي في التدقيق في الأصول والغوص إلى المنابت. له مراجعات تاريخية ذات أهمية عن الجماعات والفرق والشيع والطوائف الإسلامية. وحين تقرأ بعض مراجعاته، تأخذك دقة التوثيق للواقعة وحرص التثبت من مرجع الحدث، وحتى حين يقر رأياً، فإنه يذكرك بأنه إنما يقطع في أمر غابر لا مناص من التأكيد على إنسانية الراوي فيه، فيسبق رأيه بعبارات تواضع عليها العلماء من شاكلة " أغلب الظن" " وفي الاعتقاد". حين اختار الدكتور أحمد إلياس العودة طوعاً إلى السودان بعد سنوات تقارب العشر قضاها استاذا للتاريخ بالجامعة العالمية الإسلامية بكوالالمبور، استغرب كثيرون من زملائه، بل وحتى بنياته،ذلك القرار. فالأسباب التي أخرجت بروفيسور إلياس وأمثاله من العلماء من السودان كانت ما تزال، فيما بقيت كوالالمبور على سعة صدرها المعهود. ورغم ذلك شد عالمنا الرحال عائداً وفي باله هم وطني أصيل هو سبر غور مكنونات الهوية السودانية التي راى هو أنها لم تعط حقها من البحث من العلماء والباحثين، في بلد لب مشكلته هويته. ويبدو أن مؤرخنا قد همه كثيراً ما أبلغته الممارسة السياسية للوطن من مدى التعصب للعرق والأصول التي عادت تطل برأسها – بعد انحسار- بكل ما فيها من كريه الوصف الذي وصفه بها رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة. ولهذا فإن مؤرخنا وسم مجموعته بعنوانٍ فرعيٍ ذو دلالة وهو: " الوعي بالذات وتأصيل الهوية" ، وبذلك أعلن عن مقاصده من وراء هذا المجهود. ومنذ أعوام، بدأ البروفيسور إلياس في تفكيك غزل نسيج الهوية السودانية غزلا بعد غزل. فسبر غور الأصول من الشمال،من زمان كوش وما قبلها، ثم انداح اهتمامه بأصول أهل الغرب منابتهم ومراجعهم العرقية، وعاد من بعد ذلك فارتد إلى الجنوب الشرقي ينقب في أصول إثنيات الإنقسنا وبني شنقول، فسافر إليهم وجالس مراجعهم الحية وسعى وسطهم، ثم انثنى شرقا يبحث في أمر التداخل على امتداد الهضاب الإثيوبية، والتماس الإثني بين البلو والتقراي والحلنقة في التاكة.. القارئ للكتاب الأول من مجموعة "السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية" يستوقفه ذلك المسح الكلي لواقع الإثنيات السودانية، وربطها بالهجرات القادمة من شرق البلاد ومن شمالها وغربها. وقد يجد القارئ في مثل ذلك التناول الواسع للتداخل المبكر للإثنيات العربية والإفريقية وتحركات البشر بأصولهم وأعراقهم، ما يثير العجب بل ويلوي لسان الناطق، فقليل من عرف أو قرأ في تاريخنا الثقافي عن جماعات المحباري والترجلدايت والبليم والأزفار والبركامي. إلا أن هذا العجب سرعان ما يتوارى عند الوعي بحقيقة الاصول والجذور. فالوقائع التي يوردها السرد التاريخي تكشف حقيقة التداخل التاريخي بين الجماعات المستوطنة للسودان الأوسط منذ ما يقارب فجر التاريخ،والتي ما فتئت تغذي في تداخلها الإثني هوية أهل السودان الهجين. أما الكتاب الثاني من الرباعية المنتظر استكمالها، فإن الكاتب يبدأه – في فصله الأول- بتفكيك مفهوم الهوية رابطاً إياه بمفاهيم تتداخل معها كالمواطنة والقومية. وفي تقديرنا أن هذا الفصل جاء متأخرا،ً إذ موقعه الجزء الأول من الرباعية، ولكن هذا التأخر في التفكيك لا يلغي أهمية الكتاب الثاني هذا كما لا يلغي أهمية الفصل في فاتحة ذلك الكتاب، لأن الكاتب فيه يفصح عن غرضه ومنتهاه. فهو يتناول قضايا الجذور والمنابت لإنسان السودان مربوطاً بالتداخل الإثني العرقي الذي حدث، ليستنبط من ذلك ما يسميه "إعادة تركيب" للأصول السودانية، ليقول بذلك أن اهل السودان –كافة- لا مناص من أن يعترفوا بتداخل الإثنيات والأعراق فيهم، وأنهم - جميعاً –مهما ادعوا، لا يصفو فيهمعرق. وفي هذا الجزء يتوسع الدكتور إلياس في تناول أصول التداخل بين السودانيين في الشمال والشرق الغرب ، فالنوبة في الشمال انداحوا جنوبا وغربا، والبجا في الشرق انحدروا من أصولهم الترجلدايت وبقوا بعيدين لزملن طويل. أما أهل الوسط فإنهم نهلوا من منابت القادمين من الشمال والغرب على حد سواء. يفرد الكاتب كتابه الثالث في سلسلة البحث عن الهوية، لتواصل أهل السودان مع المسلمين منذ الفتح العمري لمصر. فيفصل الكاتب أيما تفصيل في بدء العلاقات بين المسلمين القادمين عبر مصر على عصر مملكة مريس ونوباتيا، وتطور تلك العلاقات على عهد دولة المقرة. ثم في علاقات البجا الذين لم يكونوا جزء من دويلات السودان الوسيط. ولعل اللافت هنا هو في إهمال المؤرخين التقليديين لواقعة بقاء البجا على مسافة من تداخل العلاقات الإثنية بين أهل السودان الوسيط، واتجاه علاقاتهم مع المسلمين اتجاهاَ غير متواز مع علاقاتهم بالشمال، وهو – في تقديرنا- ما يمكن أن يقدم تفسيراً نفسياً واجتماعيا للواقع السياسي والاجتماعي المتفرد لمناطق شرق السودان اليوم. الجزء الرابع من رباعية البروفيسور إلياس لا يزال في طور التكوين، وإن بدت ملامحه في مقالات أتحف بها الكاتب الصحف فيما ما مضى من الأشهر. ومن خلال الذي سطره الدكتور أحمد، يتضح جلياً أن قوارب غوصه عن الهوية تكاد أن تلج بحراً لم يرتاده مؤرخون أو باحثو علوم أنثروبولجيا أو اجتماع، فقاربه اتجه هذه المرة إلى جنوب شرق البلاد، إلى مناطق الإنقسنا والتخوم الحبشية، ليستكمل بها الباحث هذا العمل الرفيع الشأن والقليل المثال. ولعل عالمنا وهو يغوص بحثاً عن مصادر لذلك الجزء من الوطن، اصطدم بحقيقة الغياب التام لذلك الجزء من صفحات التاريخ الوطني، فشد رحاله إليه والتقى بأقوام بني شنقول يستقصي منهم اسرار الجذور، ليعيدهم إلى خارطة التاريخ الوطني جزء من المنابت والأصول. في بلد كالسودان، تشكل قضايا الأصول والهوية ركنا ركينا من مشكلات التكوين فيه، لا يمكن اعتبار مثل هذا العمل جهداً أكاديميا منتهاه خزانات الكتب ومناضد مكتبات الجامعات. ففي الوقوف على الأصول والمنابت، والوعي بمكنونات التداخل الإثني يمكن أن تكمن مفاتيح الحلول لقضايا الانتماء، ومشاكل التشظي ، ومرارات التهميش. ولا يمكن للبلد الذي يكتوي بنار التشظي، أن لا تلتفت مؤسساته ذات الصلة إلى مثل هذا العمل الرفيع، ولا يمكن أن يترك جهد هذا العالم بلا عضد ولا سند، فقارب هذا الغواص ينداح بلا رياح.. abdalmotalab makki [[email protected]]