تتميز كافة الاتفاقات بالمستويات العليا للدولة وقلة الاهتمام بالمستويات المحلية التي تغرق في الفساد، والعجز وذلة المواطن. صحيح أن الدور البارز للمستويات العليا والوسيطة مهم وأساسي في استقرار الدولة (أي أنها خاصة بإدارة الدولة) ، لكن المستوى المحلي هو الحاسم في الموقف من الدولة (أي أنها خاصة بإلمواطن). يظهر هذا واضحاً عند حدوث الانقلابات، فرغم الخطب العصماء عن الانجازات في البرلمان، التي لم تكن تصل عبر ممارسات المستوى المحلي ، لذلك فعندما تدوي الموسيقى العسكرية نجده سلبياً تجاه الحدث. فرغم الاتفاق حول حماية الديمقراطية في الديمقراطية الثالثة، كان هناك صمت قاتل ولامبالاة من الشعب. جاء تحديد نمط الحكم في ظل الحكم المحلي 1951م حيث أعتمد نظام المديريات نمطاً للتقسيم الإداري للسودان، (9) تسعاً في العام 1948م وست وثمانين مجلساً. كانت هنالك علاقة مباشرة بين المجالس المحلية والحكومة المركزية. أتاح هذا الوضع للأخير حق الإشراف والتوجيه. تشير معظم الدراسات حول هذا القانون، الى أن توازن السلطات والصلاحيات من جهة والموارد المالية والبشرية والمادية من جهة كان السبب المباشر فى الأداء الجيد لهذه المجالس مالياً وإدارياً (ورقة الحكم المحلى والادارة الاهلية للدكتور ابكر عمر: http://www.hurriyatsudan.com/?p=132135). مع هذا النظام الاداري كانت الادارة الاهلية جزءاً من هذا النظام وإن كانت خارجه، أي أنها غير حكومية. عندما طرحت مذكرة الشفيع أحمد الشيخ بشأن الإدارة الأهلية والتي دعت لحل الادارة الاهلية، لم تسمح توازنات القوى آنذاك بتنفيذها. حتى السبعينات كانت المستويات الدنيا من السلطة تدار بواسطة الادارة الاهلية في الارياف، والمجالس البلدية في المدن الكبرى. كانت الادارة الاهلية –التي اعيد تأسيسها كحكم غير مباشر بواسطة الاستعمار- ذات جذور شعبية غارقة في التأريخ. كانت هذه الادارة تتصف بالابوية وفي نفس الوقت ذات جذور أرستقراطية تتكون من بيوتات وأسر زعماء القبائل والعشائر في السودان.(الإدارة الأهلية: إعادتها بعد تصفيتها أم تطويرها لإدارة ديمقراطية ... بقلم: صدقي كبلو، http://sudan-forall.org). ما ترك في أكتوبر حدث بعد انقلاب مايو بالقرار الذي أفضى إلى حل الإدارة الأهلية عام 1970م دون وضع بدائل مناسبة لسد الفراغ القضائي والإداري الذي نجم عن القرار. تلا ذلك قانون الحكم الشعبي المحلي 1971م وقانون الحكم الإقليمي 1980م. كانت اهداف القوانين تحديث الهياكل الإدارية وتمكين القائمين بأمرها من إستيعاب إحتياجات المواطنين وإحداث التغيير فى مضمون الحياة الإجتماعية، المشاركة الشعبية لتركيز مبدأ شعبية الحكم وجماهيرية السلطة. قانون الحكم الإقليمي إعاد ترتيب هيكل الحكم في الشمال إذ أصبح ثلاثي المستوي (الحكومة المركزية، حكومات الأقاليم ومجالس المناطق) وإعاد توزيع للسلطات وللموارد، إذ تنزل للإقاليم سلطات وصلاحيات وموارد وخصصت إعتمادات مالية (دعم) الي الأقاليم ، وإنطبق ذات الشيء على مجالس المناطق من حيث السلطات، الصلاحيات والموارد في علاقتها بحكومات الإقليم (اللامركزية السياسية، اللامركزية المالية). في العام 1994م صدر المرسوم الدستورى العاشر الذى بموجبه تمت إعادة تقسيم الولايات لتصير ستاً وعشرين ولاية بدلاً عن تسع. صدر على إثره قانون الحكم المحلى 1995م الذى زعم أنه هدف إلى مزيد من اللامركزية وعدل مسمى وحدات الحكم المحلى من مجالس (بلدية، مدن وأرياف) الى محليات (مدن وأرياف) وجعل أمر إنشائها شأنا ولائياً. صدر قانون الحكم المحلى 2003م كآخر قانون إتحادى، نظم هذا المستوى من الحكم. حمل فى ثناياه الكثير من المتغيرات، بدء بإلغائه لمسمى محافظ ومحافظة مستبدلهما بمسمى معتمد ومحلية، جاعلاً إنشاء المحليات يصدر بمرسوم جمهورى، يصدره رئيس الجمهورية بالتشاور مع حكومة الولاية هادفاً من ذلك تقييد إنشائها، محدداً هيكلاً تنظيميىاً وإدارياً لكل، محدداً العضوية في مجالسها المحلية الى ما بين (20 30) عضواً، ومخفضاً فترة عمر المجلس المحلى الى ثلاث سنوات، بإيجاز أبرز إلى حيز الوجود نمطاً جديداً لإدارة وحدات الحكم المحلى. ظل هذا القانون سارياً حتى صدور الدستور الإنتقالى 2005م الذى منح الولايات سلطة إصدار تشريعاتها وقوانينها المنظمة بما فى ذلك الحكم المحلى. اعتبر قانون الحكم الإقليمي 1980م الفكرة السودانية الاصيلة- أي كان الرأي حولها-، استفاد فيها جعفر بخيت من دراساته، والتجارب المحيطة وتجارب السودان من نجربة الحكم الذاتي في المديريات الجنوبية وغيرها. وارجعه إلى أن جعفر بخيت كان رؤيوياً وضع رؤيتة في خدمة ديكتاتور ارعن. افكار السودان كلها مستلفة من مكان ما، فالمجلس الرئاسي والبرلمان تكرار لما تركه لنا الاستعمار، واللجان الشعبية من القذافي "لا ديمقراطية بدون لجان شعبية، والحزبية إجهاض للديمقراطية، وشعاره المؤتمرات في كل مكان ومن تحزّب خان" وغيرها . كما هو الحال في كل الانقلابات فقد طلب عسكر الإنقاذ من "إخوانهم" المدنيين الخطط الجاهزة، الرؤية الإستراتيجية، حلول المشاكل المستعصية والأفكار النيرة التي كانوا يظنون أنها في جعبة القيادات الأسطورية الغامضة، لكن كانوا جميعاً افرغ من فؤاد أم موسى. فبدأت في الترقيع وعندما ارادت السيطرة على العمل الشعبي كونت اللجان الشعبية، وهي "لجان تشارك المحليات فى ادارة شئون الأحياء والرقابة على خدماتها وكل مايتعلق بنهضتها باعتبارها الجهة الأقدر والألصق والأعرف بحوائج أحيائها وقاطنيها والمحلية مهمتها تقديم الخدمات والتنمية والإشراف عليها وتختص بالجوانب الأمنية كما وتشرف على اداء هذه اللجان" . أي أنها باختصار بوابة الدخول للمحلية. ورغم دسامة اسمها وصلاحياتها فقد اصبحت الذراع الشعبي للفساد الاداري الحكومي. الحكم المحلي في وثائق المعارضة أشار الاعلان الدستوري الانتقالي من وثيقة البديل الديمقراطي للحكم المحلي "نظام حكم راشد يتأسس على المشاركه الديمقراطية للمواطنين في حكم أقاليمهم و المشاركه في حكم البلاد والاقتسام العادل للثروة". اما الفجر الجديد فقد توسع قليلاً في بعض التفاصيل" الدولة السودانية دولة فدرالية ديمقراطية تعددية تتأسس على المساواة بين المواطنين وتؤكد أن الشعب هو مصدر السلطات وتعتبر أن المواطنه هى اساس لنيل الحقوق والواجبات وتضمن حرية الفرد والجماعة". كما نص على أن تتكون مستويات الحكم الإنتقالى من اربعة مستويات: الفدرالى، الاقليمى، الولائى والمحلى، وإعتماد نظام فدرالي قائم على الخرطوم (مدينة الخرطوم بحدودها الادارية الحالية هى العاصمة القومية و تكون رمزاً للوحدة الوطنية ومقراً للسلطة الفدرالية)، وثمان اقاليم الشرقى، دارفور، كردفان، جنوب كردفان/ جبال النوبة، النيل الازرق، الشمالى و الاوسط. الحكم المحلي في الفترة الانتقالية انظر للحكم المحلي من منظور رؤيوي يضع صورة سودان المستقبل في الصدارة، كما اضع في الاعتبار إعادة توحد السودان. الدولة في الشمال فيدرالية مدنية. الارجح أن نعود للخمس اقاليم الاتحادية (الشرق، الشمال، الوسط، دارفور وكردفان)، المحافظات والمجالس المحلية. التغيير سوف يكون في تغيير هيكل القوانين لتصبح ديمقراطية وراشدة. الاشكال الشعبية سوف تكون تكوينات متعددة وتعتمد على التحليل الدقيق لوضع كل اقليم وهي شأنها تقرر فيه ولكن على اساس معايير عامة ملتزمة بالديمقراطية. وعكس نظرة الفجر الجديد التي لازالت مقيدة بالاشكال القانونية في هذا المجال، لا أري معنى لتقسيم كردفان والاوسط،، لأن المطلوب كاولوية هو بناء الشكل المؤسسي للدولة، ومن خلالها نحل مشاكل المناطق الثلاث عن طريق تمييز ايجابي حقيقي. كل التجارب دلت على أن توسيع واعادة تقسيم الاقاليم لم تفعل شيئاً اكثر من زيادة العبء على ميزانيات دولة مفلسة. لقد ادار مدراء اداريين انجليز، بدون التكنلوجيا المتوفرة حالياً، مناطق شاسعة عن طريق انظمة حكم فاعلة، عادلة وكفئة. بدلاً من توسيع المستويات العليا علينا التركيز على المستوى المحلي. اسس دولة السودان الموحد انتمي لجيل من السودانيين كان الانفصال بالنسبة اليهم كارثة ماحقة لم يتخيلوا أنهم سوف يحضرونها، لم يكونوا جاهزين لها لذلك فقد كان الوقع مآساوياً لدرجة أنهم انتقلوا من مرحلة النكران مباشرة لليأس المطبق. هذا هو الحال في قطاع كبير من جيلي، صمتوا ولم ينبسوا ببنت شفة. كان هذا دافعي لكتابة "السودان موحداً" على الرابط ""https://independent.academia.edu/AmrAbbas3. فتحت اشارة اعلان باريس " تطلع السودانيين لإتحاد سوداني بين دولتين مستقلتين"، المجال للاستاذ كمال الجزولي في إعادة وضع هذه القضية على الاجندة الآنية في مقال " للمرَّةِ الألفْ: كونفِدراليَّةُ السُّودانَيْنِ! " في جريدة حريات الالكترونية. اشارت اتفاقيات الفجر الجديد وإعلان باريس للعلاقة مع دولة جنوب السودان ضمن آليات تفتح الباب مستقبلاً لاستعادة الوحدة علي اسس جديدة. عندما تكون الدولتان قد سارتا شوطاً في التحول الديمقراطي، يمكن خلق مناخات الوحدة المتدرجة. سوف تمثل أبيي نموذج إرساء قيم التعايش بين الشعبين. وقد طرحت اشكال متعددة لكيفية الوصول لهذا، واغلبها تتحدث عن خلق منطقة حكم ذاتي. إنني أرى أن تتحول فعلاً لمنطقة حكم ذاتي، لها اجهزة تشريعية وتمثيلية من سكانها، تابعة إدارياً للدولتين، ميزانيتها من الدولتين. سوف يساعد على هذا إتخاذ: الخطوة الاولى للتوحد وهي إقرار الحريات الاربعة (الدخول، الاقامة، العمل والسكن). المرحلة الثانية سوف تحتاج للاتفاق على نظام الحكم في السودان. في ظني أنه خير للسودان الاتجاه للنظام المختلط (النظام الفرنسي) من جمهورية رئاسية ومجلس نواب يشكل الحكومة من الحزب الذي يملك الاغلبية. أيضاً يحتاج طريق الوحدة تكوين مجلس اتحادي (على غرار مجلس الشيوخ الامريكي). واقترح في هذا الصدد تكوينه من خمس اعضاء من كل إقليم إتحادي و12 عضواً من الجنوب، يتم انتخابهم ديمقراطياً من كل اقليم. هذا المجلس سوف يشهد اجتماعات مشتركة وعليه تحديد الخطوات التي سوف تتخذها عملية التوحد. هذا المجلس هو المدخل للوحدة، فهو المجلس التشريعي، تصاغ فيه القوانين، يعدل الدستور وبموافقة البرلمانين. [email protected] /////