حكى الزول الساي الما بقعد ساي وما بسكت ساي فقال: قبالة حي النصر المشهور الذي يقع على مرمى حجر من مقابر النصارى وخلف المنطقة الصناعية بمدينة كوستي الجميلة، كان يمتد خلاء مدينة كوستي الفسيح ، الأخضر، المليء ببعض الغابات المتناثرة وبالأشجار والأعشاب والأزهار البرية المتنوعة، هناك في تلك البقاع الساحرة كانت مراتع طفولتي الباكرة، كانت هواية صيد الطير تتربع على عرش الهوايات ، كان موسم صيد الطير يبلغ ذروته في فصل الخريف، وكنت أمتلك ولفة ملك حر ولا أحد من الأطفال الآخرين كان يجرؤ على استخدامها لصيد الطير ولو عن طريق الخطأ، في الواقع ، كان كل واحد من أولاد حلتنا ، ومنهم ، أحمد ، الرهو ، محمد ، فتحي ، أرباب ، محمد عبد الجليل ، الرشيد يملك ولفة ملك حر ولم تحدث أبداً أي منازعات أو مشاجرات حول ملكية الولفات! الولفة كانت عبارة عن شجرة صغيرة في الخلاء ، كنا نضع عليها التلالة وهي غصن نستخدمه كسلم لاغراء الطير بالهبوط إلى الشرك المخفي بالتراب! نحن لم نخترع الشراك الماكرة لصيد الطير بل ورثناها من الجيل السابق الذي كان أكثر دهاءً ومكراً من جيلنا، كنا نصيد أنواع مختلفة من الطير ، منها المشاطة المائلة للخضرة، العريس المائل للحمرة، الكنار المائل للصفرة ، البقارية ترابية اللون وقدوم أحمر خاطف لونين! في البداية عندما كنت هاوياً ومبتدئاً كنت استخدم الطريقة الأولى وهي طريقة شرك السبيب، حيث كنت أغافل العربجية وأقوم بمعط سبيب الحصين وأهرب بسرعة البرق بالغنيمة الثمينة ثم انزوي في مكان آمن وافتل من السبيب الممعوط دوائر قابلة للشد والانغلاق ثم أربطها في أشرطة قماشية منسوجة ومثبتة على قطعة دائرية أو مربعة مثقبة من الصفيح ، أما طريقة الاستخدام ، فقد كنت اكج الشرك تحت الولفة في كل عصرية أي أغطيه بالتراب وأشتت حبات العيش وسط دوائر السبيب ، وعندما يتل الطير أي عندما يهبط بالسلم الغصني ويبدأ في التقاط حبات العيش تعلق أرجله النحيلة في السبيب ، ومن ثم كنت أندفع بسرعة الصاروخ للقبض عليه وتجنيحه (أي أضع جناحيه تحت رجليه) تمهيداً لذبحه وتحميره وأكله مع اخوتي الصغار في المنزل كعشاء فاخر ، الحصيلة اليومية للصيد بشرك السبيب كانت تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشرة طيرة! عندما أصبحت محترفاً وكبرت معاي صرت اتبع الطريقة الثانية ، وهي طريقة الشبكة ، كنت أحفر حفرة في شكل مثلث ثم أدعم حوافها بالطين ثم أضع خلفها شبكة متصلة بحبل طويل ، ثم أخفي الشبكة عبر تغطيتها بالتراب، ثم أشتت العيش الحب داخل المثلث ، ثم أذهب بعيداً وانبطح على الارض واختبيء إلى جوار الحبل ، وما أن ينزل الطير إلى داخل المثلث بأعداد كبيرة حتى أقوم بهبت الشبكة أي أقوم بجر الحبل بقوة وعنف فيتغطى المثلث بالشبكة ثم أطير طيراناً إلى المثلث لألقي القبض على الطير الذي علق داخل المثلث ومن ثم أقوم بتجنيحه تمهيداً لذبحه وتحميره في المنزل وأكله مع أخوتي الصغار كعشاء فاخر، الحصيلة اليومية للصيد بالشبكة كانت تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين طيرة ، كنا نأكلها كلها أنا وإخوتي الصغار فالطيرة الواحدة لم تكن تزيد عن لقمة صغيرة واحدة! شيء واحد ، كان يعكر مزاجي ومزاج الصيادين الصغار، شيء واحد كان يبوظ أعصابنا ويصيبنا جميعاً بالجنون المطبق، إنها طائر أو طيرة كنا نسميها الشكشوكة لأنها تصدر صوت حاداً متقطعاً سريعاً (تشك، تشك، تشك)! كانت الشكشوكة صغيرة الحجم ، سوداء اللون وكأنها نقطة سوداء، الشكشوكة كانت أصغر وأذكي وأغرب طائر على الاطلاق ، لم تكن الشكشوكة تنزل إلى الشرك المغري مطلقاً بل كانت تحط على أعلى جزء من الولفة ثم تحذر طيور العرسان والطيور الأخرى الأكبر منها حجماً من النزول للشرك ، الغريب في الأمر أن الطيور الأخرى كانت تستجيب لشكشكتها المحذرة وتفر من الشرك على جناح السرعة تاركةً لنا أكبر الحسرات وخيبات الأمل ، ويبدو أن الشكشوكة كانت تعرف الشرك وتدرك خطورة الشرك ، فكانت تقول لجماعة الطير بلغتها الشكشوكية الفصحى : الاولاد العفاريت ديك كاجين ليكم شرك ، لا تنزلوا للشرك يا أغبياء ، اهربوا بسرعة! لم يستطع أي صياد صغير أن يصطاد الشكشوكة ولم نجد أي شكشوكة ميتة ولم تدع لنا الشكشوكة أي فرصة للاقتراب منها ورؤيتها حتى أن بعضنا كان يعتقد أنها أصغر نوع من أنواع الجن الأسود! كم كنت أكره الشكشوكة الصغيرة السوداء، كم عدت إلى منزلنا صفر اليدين بسبب الشكشوكة الماكرة ولم أتناول طيراً في وجبة العشاء! الآن ، كلما تذكرت الشكشوكة، أشعر بأعمق احترام لها فالشكشوكة كانت عصفورة صغيرة ذكية لا تنتمي لفصيلة الطيور الغبية الأكبر حجماً التي كنا نصيدها بسهولة ومع ذلك فإن الشكشوكة كانت تحب الخير لتلك الطيور التي تختلف عنها لوناً وحجماً وشكلاً ولا ترضى لها الوقوع في الشرك، فيا سبحان الله العظيم ، كيف تختفي كل تلك الحكمة وكل ذلك الخير في الشكشوكة الصغيرة السوداء بينما يقوم بعض البشر بتحريض بعضهم على قتل أنفسهم وقتل الآخرين عبر خوض الحروب المدمرة أو ارتكاب الجرائم المهلكة؟! عندما حكيت قصة الشكشوكة لإبني ، الذي ولد في السعودية وترعرع في قطر ولم يقم في حياته بصيد أي طائر سوى طائر البطريق في لعبة صيد البطاريق الالكترونية في الكمبيوتر، قال لي بتشكك مكشوف: بابا ، أنا لا استطيع أن أصدقك ، أنت تمزح معي؟! أليس كذلك؟! فيصل الدابي/المحامي عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.