محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل سيأتي يوماً نقول فيه وداعاً السودان الذي نعرف؟ .. بقلم: التجاني الحاج عبدالرحمن
نشر في سودانيل يوم 07 - 04 - 2015

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كم كنت سعيداً مساء أحد الأيام عندما ذهبت في مناقشة عميقة إمتدت إلى مابعد منتصف الليل مع الصديق مهند كدام على أطراف الساحة الخضراء بمدينة الخرطوم. تخللها الشخصي أكثر من العام. لكن وبالرغم من قِصر الموضوعات العامة إلا إنها فتحت أمامي آفاق لم تكن ترد في الذهن نتيجة للغبار الكثيف الذي فرضه واقع اللهاث اليومي وراء لقمة العيش المرة في الزمن الأمَّر. وقد رأيت أن أشارك الآخرين فيما كنا نرى.
لماذا وداعاَ للسودان الذي نعرف؟!.. سأحاول أن إستعراض هذه المقولة من جوانب مختلفة وعلى خلفية التطورات الأخيرة في المشهد السوداني، ولنرى بعدها، إن كان التخوف المستضمر داخل هذه المقولة له ما يبرره أم لا.
محاور المناقشة:
(1) إعادة قراءة لمسألة السودان المحوري أو "مثلث حمدي".
(2) التحولات الداخلية للنظام:من اليوتوبيا إلى الصراعات إلى مشروع"النظام الخالف"للترابي.. التاريخ يعيد نفسه؟
(3) إنتخابات 2015 القادمة بالسودان خداع النفس والغير أما ماذا؟.
قد يسأل سائل.. ما الذي يجمع العناصر السابقة؟ وما علاقتها بمقولة: "وداعاً السودان الذي نعرف؟، وهو تساؤل مشروع. إذاً حتى لا يكون الحديث "على عواهنه" دعونا نمضي في التحليل وإعادة القراءة لكل هذه العناصر من جديد.
(1). إعادة قراءة لمسألة أو مشروع السودان المحوري "مثلث حمدي":
ركّزت الكثير من القراءات النقدية السابقة لمشروع السودان المحوري أو "مثلث حمدي"، على نزعة وروح التفكير الإنفصالي/التفتيتي للمشروع، والذي عبرّت عنه بوضوح فاضح الفرضيات الأساسية التي قامت عليها الورقة ومقترحاتها ذات الصلة. فحسب الورقة؛"يجب تركيز الإستثمارات والجهود في محور (دنقلا سنار + كردفان)".معظم هذه القراءات كانت ترى أن طريقة التفكير هذه أو الروح على أقل تقدير ما كان يجب أن تصدر من مؤسسة سياسية هي عملياً في مواقع السلطة والمسئولية، وهذا حكم سليم إستناداً إلى المعقولية السياسية، إذ لا يستقيم أن تفكر مؤسسة حاكمة بهذه الروح النرجسية المحاصرة بالذاتية الضيقة والتي لا تفكر إلا في مصلحة بنيتها السياسية أو الحزب الذي يخصها، وهي في الوقت ذاته تتحكم في الدولة بأكملها، بل كان يجب أن ينسجم التفكير مع الطبيعة الموضوعية لمقتضيات الحكم والسياسة. لكن ومهما يكن من أمر، فإن ما يلفت النظر هو لماذا لم ينتبه كاتب الورقة لهذا التناقض الكارثي حينما أشار صراحة في فروضاته الأولية إلى أن ورقته موجهة إلى الحزب وليس الدولة مستنداً على شرعية أن: "... التكليف يجئ من حزب سياسى. وليس من الدولة. ولهذا يفترض أن تراعى الإجابة عليه مصلحة الحزب فى الاستفادة من الاستثمار خلال الفترة الانتقالية ليحقق له مكاسب تضمن استمرارية الحزب فى الحكم والاحتفاظ له بقسط وفير من السلطة السياسية" . فإذا سلمنا أن هذه الفرضية ومن الناحية الإجرائية تبدو سليمة في سياق الورقة بشروطها الحزبية، إلا أننا نصطدم بأنها وقعت في تناقض مبدئي لا يمكن أن تخطئه العين أبداً، إذ أن هذه الفرضية ربطت بصورة صميمة بين مصلحة الدولة ومصلحة الحزب، وكشفت بذلك، وفي ذات الوقت، عن إثم وآفة السياسة الملازمة للأنظمة الشمولية، وهي عدم القدرة على التفريق بين الحزب والدولة (الحزب هو الدولة والدولة هي الحزب) وكل ما يرتبط بذلك من موبقات. وهو تناقض معروف تجاوزته الدولة الحديثة مفهوماً وممارسة منذ عقود طويلة. وبطبيعة الحال فإن التحليل النهائي وفي مثل هكذا شروط يفضي إلى أن تنتهي الدولة بكاملها في قبضة المؤسسة الحزبية، مع العلم أن الموارد المستخدمة لهذا الغرض هي موراد الدولة المملوكة للجميع، يتضمن ذلك من هم في بنية السلطة ومن هم خارجها حتى إن كانوا على النقيض في المصالح والتوجُّهات.
أشارت الفرضية الثانية للورقة إلى أن: "...التدفقات المالية المتوقعة من إتفاقية أوسلو ومن المؤسسات الدولية والإقليمية سوف تأتى متأخرة، ستكون أقل بكثير من التوقعات، ستحوطها بيروقراطية معروفة عن مؤسسات المانحين.سيتجه ما يأتى منها الى مناطق معينة محددة سلفاً بموجب اتفاقية السلام (هى الجنوب الجغرافى بحدوده السياسية المعروفة زائداً جبال النوبة زائداً جنوب النيل الأزرق. وستشرف عليها مفوضيات محددة لضمان توجيه تلك الموارد الى تلك الجهات. ولذا فهى ستكون اساساً خارج يدنا ولن يفيد منها الشمال كثيراً.عكس ذلك فأن التدفقات المالية العربية والاسلامية الرسمية وبالذات الخاصة أتت وسوف تأتى إلى الشمال الجغرافى. ويسهل أن تجذب إليه.. (وربما بتوجيه وحث من الشمال يمكن أن يذهب بعضها إلى مناطق أخرى بعض أطراف الجنوب ودارفور). وعليه فأن المصدر المستهدف فى العملية الاستثمارية من قبلنا يجب أن يكون هذه الاستثمارات.. لما لنا فى الشمال من علاقات شخصية ورسمية مع هؤلاء المستثمرين (الصنادق العربية – المستثمرين العرب والمسلمين – البنك الاسلامى للتنمية ومؤسساته) .
نتيجة هذه الفرضية واضحة، وهي في أفضل الشروط الإستغناء أو تعمدت تجاهل التدفقات المالية الدولية الموجَّهة للمناطق المتأثرة بالحرب المشار إليها حسب إتفاقية أوسلو، وأعتبرتها خارج يدها وخصماً من رصيد ما أسمته ب"الشمال"، واقترحت بديلاً له إستجلاب رأس المال الإسلامي العربي وتوظيفه في هذا الشمال أو تحديداً المحور الذي ذكرته. وبالتالي تتضح عقلية التجزئة/الإستبعاد في التعامل الحكومي على مستوى الدولة، ومظاهر الميول والتحالفات العربية ضد الكيانات الأخرى في السودان. بمعني؛ أن رأس المال العربي الإسلامي هو من نصيب الكيانات الإسلامية العربية وليس لغيرها.
الإفتراض الثالث: "أن الجسم الجيوسياسى فى المنطقة الشمالية المشار إليه أعلاه وسأطلق عليه اختصاراً {محور دنقلا – سنار + كردفان} أكثر تجانساً.. وهو يحمل فكرة السودان العربى/الاسلامى بصورة عملية من الممالك الاسلامية القديمة قبل مئات السنين.. ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسى عربى/إسلامى يستوعبه. وهو "أيضا" الجزء الذى حمل السودان منذ العهد التركى/الاستعمارى/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى فى غير وجود البترول ولهذا فأنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون {أن لم يكن سياسياً فاقتصادياً عن طريق سحب موارد كبيرة منه} لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة يصدق هذا بصورة مختلفة قليلاً حتى إذا ابتعدت دارفور.. رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور حتى لو أنفصلت أو أبتعدت سياسياً" .
هذا الإفتراض وضع الإطار السياسي لتوظيف الإستثمارات بصورة أكثر وضوحاً وصراحة في قالب "جيوسياسي" هو المثلت المشار إليه (دنقلا – سنار +كردفان). وهذه الفرضية على وجه التحديد هي التي أثارت غبار المعارك الكثيفة حول ما كتبه عبدالرحيم وأدي لوصم ورقته بالعنصرية. والحق يقال أن الوصف بالعنصرية كان إستنتاجاً سليماً من الناحية والواقعية لأنه قام على إفتراض أن هذا التفكير لا يمكن يصدر من مؤسسة سياسية عاقلة وراشدة، مالم تكن هنالك تفسيرات أخرى.
هذه هي الأسس المركزية التي قامت عليها ورقة "السودان المحوري"، وماتبقي منها، هو في نهاية التحليل مقترحات عملية/إجرائية تتبع للمبادئ والركائز الإساسية التي جاءت في الفروضات المشار إليها عاليه. إذاً يصبح تلخيص الورقة إجمالاً يتحدد بتلخيص الفروضات التي قامت وإننبت عليها، وهي على النحو التالي:
(1) مبدأ ربط مصالح الدولة بالمصلحة المباشرة للحزب الحاكم، ويشكل هذا المبدأ العمود الفقرى للورقة؛
(2) إستغلال موارد الدولة لمصلحة الحزب أو محور (دنقلا – سنار + كردفان) في مقابل الزهد في الإسهامات الدولية أو حجب/إعاقة الطريق بينها وبين إستغلالها في المواقع الطرفية الأخرى والمتأثرة بالحرب، وإستجلاب وتوظيف رأس المال العربي والإسلامي لصالح الكيانات الإسلاموعروبية دون غيرها؛
(3) وأخيراً التحديد للخريطة الجيوسياسية لسودان المستقبل (محور دنقلا – سنار + كردفان) إستناداً على فرضية التجانس الثقافي والإثني والتحسب لإحتمال إنفصال الأطراف (دارفور، جنوب كردفان، الشرق، النيل الأزرق).
لذلك؛ فالفرضية الأولي هي في واقع الأمر تكريس للشمولية بكافة مستوياها من خلال أداة الحكم/السلطة، الثانية ممارسة التمييز والإستبعاد و"الفساد المؤدلج" ، والأخيرة هي الإتجاه نحو تكوين أو إنشاء دولة جديدة قائمة على التحديد الثقافي العنصري. بإختصار يمكن تجريدها في العلاقة المبسطة التالية: الإستيلاء على الدولة (التمكين، وقد حدث) .. يليه، إمتصاص الموارد كلها وإعادة إستثمارها جغرافياً في المحور المذكور بمكوناته الثقافية والإثنية. وأخيراً تشيد الدولة المحورية من المثلث المذكور بعد إستبعاد الأطراف (دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق والشرق إن إستدعي الأمر) على أنقاض ماتبقي من الدولة السودانية المعروفة من بعد 1821.
إن قراءة هذا المشروع المرة تلو المرة، من جانب، دائماً ما يجعل الذهن لا يستطيع تجنب مقولة أن هذا التفكير لا يتسق مطلقاً مع مبادئ وأسس المعقولية السياسية كما قلنا في البداية، إن لم يكن القول أنه تفكيراً جنونياً وشيطانياً. ومن جانب آخر يجعل المرء يطرح السؤال الملح: "ما الذي دفع السيد حمدي لتقديم هذه الورقة الكارثية، وما الذي حمل الآخرون على قبولها"؟! إن الإرتهان إلى التبرير القائل بأن الدولة أصبحت مرهقة ومستنزفة من صراعات الأطراف وغير قادرة بالتالي على إدارتها كما تشير الورقة بذلك ضمنياً، هو تبرير ممجوج، ذلك لأن الإرهاق والإستنزاف المشار إليه نتيجة وليس سبباً، وبالتالي لا يمكنه الصمود كمبرر لتفضيل خيار التفكيك. إذن أين تقع الإجابة؟ لا مناص إنها تقع هناك داخل نطاق التفكير الآيديولوجي للنخبة الحاكمة وخطابها لأنه البطانة اللاشعورية التي تبرر للخيارات. وكما هو معلوم، فإن نطاق التفكير الآيديولوجي هذا هو يتوبيا المشروع الإسلاموي، والذي ظلت متلازمته الرئيسية هي (الإسلام العروبة)، أي (اللاهوت والعرق). وكما تعلمنا دروس التاريخ إن نظم الحكم ومؤسساته التي قامت على هذين الحدين (الأديان والعرق) غالباً ما إنتهت بسيادة العرق (عصبية الدولة بتعبير بن خلدون) على مقاليد السلطة وإحتكارها لفئة محددة مهما سميت، والتي كانت مبرراتها على الدوام إما إدعاء المصدر الإلهي للعرق المسيطر، أو إدعاء إمتلاك تفويض/تخويل إلهي بالحكم لفئة أو طبقة بعينها أو أي تخريجات شبيهة تتسق مع شروط وسقوفات التطور المعرفي في الحقبة المعنية. هذه التخريجات كان لا بد منها، لا وبل تكتسب أهمية قصوي لتحقيق السيطرة على النظم السياسية والإقتصادية، والجلوس في قمة التراتيبات الإجتماعية، لأن التاريخ البشري لم يذكر أبداً في يوم من الأيام أن الإله نزل إلى الأرض ومارس الحكم بنفسه، فكان لابد منها إذن.
لذلك فالمشروع الإسلاموي ليس إستثناءاً من حكمة التاريخ الإنساني ولا من صيروراته، فكان لزاماً أن تسير دولة الإنقاذ على نفس القضبان وتعيد إختراع نفس العجلة القديمة عندما قررت ركوب يتوبيا المشروع اللاهوتي لتنتهي إلى النتيجة المحتومة، وهي واقع التحديد/التعيين على الأساس العنصري لدولتها، وهذا ماثبتته الورقة بوضوح وصراحة يحسد عليها السيد حمدي وأهل الإنقاذ. إذاً فالعامل المركزي في الركون لتفضيل خيار تفكيك السودان إلى "سودان محوري" يتكون جيوسياسياً من دنقلا إلى سنار مضافاً إليها كردفان، وآخرين مستبعدين من هذا المحور، هو (فيزياء) التفكير المستبطن في وعي النخب الإسلاموعروبية، والأمر لا علاقة له بالتبريرات السطحية كما أوردناها أعلاه، سواء إن كانوا هم على وعي بذلك أم لا(وهذه جزئية في حوجة للدراسة ليس هذا مجالها). وعموماً فإن إختيار تقزيم السودان إلى محور ضيق، هذه هي بنيته اللاشعورية التي تقف وراء مبرراته السياسية الطافية، وبالتالي يصبح الحق كل الحق مع اللذين إختصروا رؤية السيد حمدي في حمولتها العنصرية ولم يتجاوزا قط هذا الحاجز لأن ليس هناك إنحطاطاً في البرغماتية السياسية أبعد دركاً من ذلك يمكن أن تُوصف به نخبة (ما) في القرن الواحد وعشرين.
الجديد في إعادتنا لقراءة هذا الموضوع يكمن في الجانب السياسي التطبيقي الذي يتأسس على الحيثيات الإقتصادية، وجاء محمولاً على مصطلح "محوري"، وقد غطي عليه غبار المعركة حول حمولته العنصرية بحيث لم تجعل الكثيرين ينتبهون، لما بعد الدعوة للتفكيك المحدد بالشروط الإثنية/الثقافية. هذا الجانب تفسِّره الكثير من الإجراءات، فرسم الحدود إنبني كما قلنا على التحديد والتعيين العنصري والثقافي بناءاً على بطانة التفكير الآيديولوجي، بينما "محورية" هذه الدولة قامت على مبدأ الإستغلال الإقتصادي، والذي مثلت سياسة التمكين التي إُتبعت في الماضي ركيزته وأداته التي تُمتص بها كل موارد الدولة لصالح النخبة الإسلاموعروبية لتبني بها مثلثها حتى يصير محورياً تعتمد عليه الأطراف المنفصلة في المستقبل، سواءاً في جوانب الخبرات وغيرها، حتى يسهل ربط دويلات الأطراف بدولة المحور بعلاقات تبعية أبدية. والناظر بعمق لعلاقة دولتي الشمال والجنوب السودانيتين يستطيع أن يتبين ملامح لهذه العلاقة، والتي تمكنه من أن يتنبأ بنمط شبيه لها في حال حدوث أي إنفصالات أخري كما تتوقعها الورقة.
إذاً الدرس الرئيسي المستخلص من إعادة قراءة ورقة "السودان المحوري" ليس في رؤية حمولة التمييز العنصري/الثقافي الذي قامت عليه الورقة على أهمية ذلك، لأنه "تحصيل حاصل" للمسار الحتمي الذي سار ويسير عليه الخطاب الإسلاموي في السودان وفي أي تجربة شبيهة سواء إن كانت في الماضي أو ستكون في المستقبل. وتاريخ الدول التي قامت على العصبيات مدون ومعروف ولا يحتاج منا لكبير عناء لإستخلاص الدروس والعبر. الجديد في الموضوع هو عملية بناء "الدولة المحورية" المزعومة والتي لا مفر من أن ترتبط بها الدويلات الأخري بعد تمزُّق السودان بعلاقات تبعية بحكم روابط التداخل والتاريخ المشترك وتقاطعات المصالح الإقتصادية. ومهما يكن من أمر فإن بناء السودان المحوري هو عملية بناء إنتهازية تقوم على إستغلال موارد الآخرين بعد تحطيمهم في إنسانهم وبنيتاتهم التحتية، وبروز دولة المحور على أنقاضهم، وهو ما يفسر اليوم إصرار النخبة على حروبها التي تخوضها ضد الأطراف وممارسة أقصى أنواع العنف في ذلك.
(2) التحولات الداخلية للنظام: من اليوتوبيا إلى الصراعات إلى مشروع"النظام الخالف".. التاريخ يعيد نفسه؟؟
هناك الكثير من التحوُّلات التي طرأت على النظام الحاكم في السودان منذ إستيلائه على السلطة في 30 يونيو 1989، وجميعها ارتبطت إلى حد كبير بصراعاته الداخلية وأسبابها. لكن أهمها الإنقسام أو "المفاصلة" التي حدثت بنهايات 1999 وبدايات 2000 و التحوُّلات الأخيرة والتي تمت على مراحل خلال الفترة الممتدة من 2011 وإلى الأن. إنقسامات المرحلة الأولى قامت على خلافين رئيسين الأول: كان حول شكل علاقة الحزب بالدولة والثاني: كان حول الموارد/الغنائم. وقد إنتهت هذه المفاصلة كما هو معروف بخروج زعيم الحركة الإسلامية د. حسن الترابي وكثير من أقطابها، وبقي في السلطة العسكريين وإسلاميين آخرين. المرحلة الثانية شهدت حراكاً جديداً ملامحه تبدو وكأنها عملية إعادة تبادل للمواقع، حيث بدأت بإقصاء الإسلاميين المتحالفين مع العسكريين داخل النظام وإستمرار سيطرة العسكريين مع نذر ومؤشرات إعادة الذين خرجوا في المفاصلة الأولي في 1999. وما بين هذين التحولين الفيزيائيين في بنية وتركيبة النظام كان هناك أيضاً أرجحة في بنية التفكير والخطاب وآلياته والسياسات المرافقة له. فمن يوتوبيا المشروع الإسلامي أو "الحضاري" إلى التمترس في الخطاب العنصري إلى مؤشرات عودة مرة أخرى إلى خطاب إسلاموي بشكل وملامح جديدة. أيضاً صحب ذلك متغيرات على صعيد الدولة والمجتمع، إنقسم السودان لدولتين (جنوب وشمال)، إندلاع الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور. وبمراجعة الثابت والمتحول في هذه التطورات الموتورة لا يلاحظ المرء جديداً لا على مستوى أسس التفكير أو الخطاب، وأشدد على أسس التفكير/الخطاب، وإنما حراك قوامه تبادل للمواقع في بنية السلطة وإستمرارية الحرب مع الأطراف بنفس الأسباب والمبررات والأسانيد التي يسوقها النظام. أي ثبات طرائق التفكير في تناول مسألة الحرب الأهلية في الدولة، والتي قوامها تفتيت الأطراف وإضعافها لمصلحة مشروع الدولة المحورية. ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في إستراتيجيات المواجهات العسكرية على الأرض وأجندات المفاوضات بين النظام وخصومه من الأطراف.، فكلها ومن حيث الشكل والمضمون تخدم مصلحة تفتيت الدولة أكثر مما تخدم وحدتها.
وفي نفس سياق التفكير والمقاربات، فإن مايتم داخل البنية الفيزيائية للنظام أو بينه وبين الآخرين في المدارات القريبة من تعريفات وتحديدات وإشتراطات قضايا السلام، هي في واقع الأمر تفاهمات يصنع منها النظام عجينة دولته المحورية على نار هادئة، ويسوى من خلالها الأرض لمواجهة الخطابات المغايرة التي قد تقذف بها رياح التسويات المفروضة. ولكي نكون أكثر تحديداً فإن الحوار الداخلي الذي إنطلق بعد ماسُمي ب"خطاب الوثبة" ويسير الآن وفقاً لآلية (7+7)، أو التقارب بينه وبين بعض التيارات ذات الخلفيات الصوفية الحركية أو القومية العروبية أو الإتفاقيات بينه وبين الحركات المتمردة ذات الخلفية العربية، هو بالضبط العجينة التي تكوُّن أساس السودان المحوري. وقد أشرت إلى ذلك سابقاً بصورة من الصورة لحظة تدشين الرئيس البشير ل"خطاب وثبته"، ولا أعتقد أن هناك تغييراً قد طرأ على مسار هذه الإستراتيجية "... فالملاحظةكانت أنكلالحاضرينحينها يمثلونالتياراتاليمينيةأوالتياراتذاتالخلفياتالدينية: الحركةالإسلاميةبكلتياراتهاالمتصالحةوالمتخاصمةوالواقفونفيمنزلةبينالمنزلتين،حزبيالأمةوالإتحاديالديمقراطيبكلفروعهما وقوي اليسار القومي العروبي. غابتالتياراتالشبابيةوالقوىذاتالخلفياتالعلمانيةعنهذاالمنتدي. وسيظلمطلوباًمعرفتهأنكانتهذهالتياراتغابتبمحضإرادتهاأمتمتغييبهاعنقصدوعمد. وحتىذلكالحين،سيبقىفيالذهنأنهذامحفلوحواريخصفقطالقوىاليمينة،مهماحاولتدبلوماسيةالخطابفيدعوتهالشموليةالحوار،أنتضفيعليهصفةالقومية. ولانريدأننستبقالخطوات،فهذاالمحفللهمالهوتحتهماتحته،وظاهرهأنهإعادةترتيبلقوىاليمينأوتياراتالإسلامالسياسيبمختلفمدارسهاعلىأساسخطابجديدبداءيتشكلعلىخلفيةإنهيارتجربةالإسلامالسياسيفيالسودانوعلىواقعيةمخافةتفتتالدولةالسودانيةالباديةفيالأفقالمنظور" . ولم يمضي وقت طويل حتى تغير المشهد في الطبيعة الفيزيائية للنظام بخروج صامت لأعمدة كانت مؤثرة فيه مع ملاحظة سيطرة لعسكريين وبداية تقارب مع تنظيم المؤتمر الشعبي بقيادة د. حسن الترابي عرَّاب الحركة الإسلامية، مما ينبئ بعودته للمشهد السياسي مرة أخرى. عموماً؛ لم يكن أمر عودته أمراً مستبعداً، وإنما كان الغموض يكتنف التوقيت وطريقة هذه العودة والثمن المدفوع مقابل ذلك، ويبدو أن طرفاً من هذا الثمن كان إزاحة جزء من أركان النظام الأقوياء الذين سيطروا على مراكز صناعة القرار منذ المفاصلة وحتى وقت قريب. ومع ذلك، فالتقديرات تقول أن ذلك قد لا يكون كافياً ما لم يكون هناك أساس سياسي متين أهم إشتراطاته أن لا يعيد تجربة الإنقسام داخل الحركة الإسلامية مرة أخرى، ويضمن لها السيطرة والبقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يظهر الترابي مرة أخري حاملاً لافتة كتب عليها "النظام الخالف"!. ومثلها مثل لافتة سابقة كتب عليها "التوالي"، تداولها الناس تندراً في أغلب الأحيان، لكن لنري ماذا قال أصحابها عنها. جاء في صحيفة العربي الحديث: " ينوي حزب المؤتمر الشعبي السوداني المعارض، بزعامة حسن الترابي (الصورة)، الترويج لمشروع جديد يقضي بدمج الأحزاب والتيارات الإسلامية في حزب واحد، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني الحاكم برئاسة عمر البشير. وحصلت "العربي الجديد" على ورقة خطّها المؤتمر الشعبي بعنوان "النظام الخالف" تقوم على تذويب التيارات الإسلامية والأخرى ذات الخلفيات الإسلامية في حزب واحد.... "حملت الورقة، التي اقترحها الترابي، مراجعات وتقييماً كاملاً لتجربة الإسلاميين في حكم السودان، فضلاً عن تجربة المؤتمرين الشعبي الذي يقوده، والوطني الحاكم.. " وحملت الورقة، التي اقترحها الترابي، مراجعات وتقييماً كاملاً لتجربة الإسلاميين في حكم السودان، فضلاً عن تجربة المؤتمرين الشعبي الذي يقوده، والوطني الحاكم، ولا سيما أن الورقة حددت أهدافها بخلق تحالف عريض في شكل حزب واسع وفي إطار شراكة سياسية جديدة تضم الإسلاميين بطوائفهم.. المختلفة، بمن فيهم ذوو الخلفيات الإسلامية كالسلفيين والتيارات الصوفية والأحزاب الطائفية. وشددت الورقة على أهميةالاستفادة من تجربة الإسلاميين، في ما يتصل بقضايا الحريات والتنوع، عبر التركيز على الإيجابيات وتطويرها وتلافي السلبيات بما يتناسب والتطور الطبيعي للحياة". وأقرّت الورقة أن يخلف الحزب الجديد الأحزاب الإسلامية القائمة، بما فيها المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني الذي رهنت الورقة حلّه بقيام الحزب الجديد وفي ظل نظام ديمقراطي. واستند المؤتمر الشعبي في رؤيته الجديدة على التطور التدريجي للحركة الإسلامية التي بدأت بتأسيس الجبهة الإسلامية للدستور في 1954 ثم جبهة الميثاق في 1965 والجبهة الإسلامية القومية في عام 1985. وحملت نقداً ذاتياً للتجربة الإسلامية ومراجعات شاملة فضلاً عن تطوير لمفاهيم الحركة الإسلامية نفسها والمنعطفات التي مرّت بها.وعلمت "العربي الجديد" أن الترابي يولي الورقة بالغ اهتمامه ويشرف شخصياً على تنفيذ المشروع باعتبار أن أكثر ما يشغله في الفترة الأخيرة توحيد الإسلاميين برؤية جديدة، لتلافي سلبيات حكم النظام الحالي الذي يحمل الرجل وزره باعتباره مهندس الانقلاب الذي تم في 1989". وفي ذات السياق ذكر كمال عمر الأمين السياسي لحزب الترابي: ".. أن الترابي اقترح ذلك البرنامج للتصدي لأزمات الواقع السياسي وهو المشروع الذي يضم كل التيارات ذات البرامج الإسلامية، واتهم عمر المعارضة الرافضة للحوار بالسعي إلى القضاء على الإسلام السياسي، وقال عمر إن أشواقا تحدوهم لتوحيد كل التيارات الإسلامية ليس بين المؤتمر الوطني والشعبي فقط.وكانت جماعات إسلامية قد طرحت في وقت سابق برنامج تحالف أهل القبلة، وهو التحالف الذي باركه المؤتمر الوطني الحاكم والذي سعى لضم كل الأحزاب والقوى السياسية ذات البرامج الإسلامية مثل حزب الأمة والاتحادي والمؤتمر الشعبي وأنصار السُنة.ووصف عمر برنامج الترابي الجديد بالمارد القادم الذي يستطيع أن يتعامل مع قضايا الحكم في السودان بشكل ممنهج، وقال إن البرنامج هو مشروع مستقبلي فيه تأتي كل التيارات الإسلامية والطرق الصوفية والشخصيات لتؤسس منظومة جديدة تعمل في مجال السياسة والثقافة والفن والاجتماع والصحة" .
لا نريد أن نستبق الأحداث، لكن التصريحات تتحدث عن نفسها، وشأت أم أبت فقد رسمت الملامح الأولية أو "معالم الطريق" للشكل الجديد للنظام، أو النظام "الخالف" كما سمّاه الترابي، ولا يبدو حتى الأن أن هناك جديداً يسترعي الإنتباه، فماهو الفرق بين فكرة تنظيم "النظام الخالف" و الجبهة الإسلامية القومية التي تأسست عقب إنتفاضة مارس أبريل 1985؟ في واقع الأمر لا فرق يذكر سواءاً من الناحية البنيوية أو على مستوى الفكرة والخطاب، فقد كانت الجبهة الإسلامية القومية تحالفات وشراكات ضمت تنظيم الأخوان المسلمين وجماعات صوفية وتنظيمات وشخصيات ذات خلفية إسلامية، والنظام الخالف يدعو لنفس صيغة التحالف. وإن كان ولا بد من تحصيل الفروقات نجدها متضمنة في التالي:
1) تقديرات الحقبة التاريخية: الجبهة الإسلامية تكونت في الحقبة الديمقراطية، وجاءت بعد خروج جماعة الأخوان المسلمين كالشعرة من العجين من شراكتها وتحالفها الملوث مع نظام مايو ومشاركتهم في حقبة الديمقراطية الثالثة. بينما "النظام الخالف" متوقع له أن يكون مرحلة إنتقالية للعبور من مأزق الإنقاذ نحو صيغة أو واجهة لخوض غمار العمل السياسي في أي ترتيبات ديمقراطية قد تحدث. ومهما حاول الترابي عبر تخريجات لغته الفقهية الغامضة والمسمومة أو فهلوة المسميات، سيظل نظامه الخالف هذا الإبن الشرعي لنظام الإنقاذ وسيظل قميصه مقدود من قبل. لذلك يبدو فيما يبدو أن الفكرة الأساسية للنظام الخالف هي تأمين طريقة خروج آمنة للحركة الإسلامية من وحل الإنقاذ على غرار الهروب السابق من وحل مايو، لكن هذه المرة بأوضاع إقتصادية أفضل من حيث السيطرة الكاملة على النظم الإقتصادية ومفاصل العمل السياسي التي وفرتها خبرة ما لا يقل عن 25 عاماً للحركة في الحكم على أقل تقدير. وبين هذا الخروج وذاك فروق كبيرة للغاية.
2) الفكرةوالقاعدة الإجتماعية: التكوين البنيوي والفكرة هي نفس الفكرة، آيديولوجيا إسلاموعروبية + قاعدة إجتماعية قوامها الكيانات العربية وحلفائهم.
3) الأرض والسكان: خريطة جغرافية للسودان يغيب عنها الجنوب أرضاً ومجتمعاً، وصراعات متجددة في الشمال تحمل نفس سمات وملامح الصراع السابق مع الجنوب.
4) الإقتصاد: بنية إقتصادية منهارة بالكامل، ودورة علاقات إقتصادية تسود فيها علاقات إقتصاديات الريع.
5) علاقات دولية وإقليمية: محيط إقليمي ودولي مغاير عن سابق عهده.
صفوة القول، أن السودانيين مواجهون بخيارات خداع شديدة المكر، تؤدي في أغلب الأحوال إلى نتائج مفادها كسر لأي حلقة تطور الإجتماعي وسياسي مؤدي للتغيير الحقيقي!! ولتفسير هذه المقولة علينا ترتيب الخيارات الممكنة.
أولاً: ديناميات الخيارات أمام النظام: وهذه تحددت بمجموعة عوامل مركزية ضاغطة خلال مسيرة الحكم التى سارها النظام. تركزت هذه العوامل المركزية الضاغطة في:
1) سقوط المشروع الإسلاموي (الحضاري) من الناحية الموضوعية، وببرهان التجربة، إذ لم يعد من الممكن مرة أخرى رفع شعار "الإسلام دين ودولة"، او الحديث عن أي مكونات لدولة إسلامية، فإما مفهوم الدولة الحديثة الذي تطور مع التجربة الإنسانية أو البقاء خارج التاريخ. وبالتالي فإن مأزق الفكر الإسلامي الذي تقوده النخب الإسلامية في السودان اليوم، هو إما التنازل عن المشروع الإسلامي من خلال القبول بمبدأ التعدد وإستيعاب الآخرين في كافة أنحاء السودان، أو إعادة إنتاج نفس المشروع في فضاءات أضيق مازال لديها بقايا من قبول ليوتبيا المشروع الإسلامي، أو بصورة أكثر دقة مجتمعات مازالت عمليات التغييب بالخطاب الإسلامي قابلة للإستمرارية فيها. والمؤسف إن هذه النخب فضلت الخيار الثاني وهو إعادة إنتاج نفس المشروع في إطار ما أسمته "السودان المحوري" كما ذكرنا من قبل. وبالتالي من المتوقع أن تعيد ذات الأزمات إنتاج نفسها في هذا "السودان المحوري".
2) الحروبات ومشاريع السلام: عامل الحروبات قام بالأساس على خلافات حول مسارات تطور الدولة بشكل عام وبتفاصيلها المتمركزة حول قضايا الهوية ومسائل عدالة تقسم الثروة والسلطة والعلاقات الإجتماعية، وما نتج عنها من أوضاع تمركز وتهميش. فقد أصبح أن هناك مشروعين على طرفي نقيض، هما المشروع الإسلاموي ومشروع التغيير بمنصاته المختلفة. وتبقي الخيارات هي أما أن ينتصر مشروع على الآخر أو خيار التسوية. وفيما يبدو من قراءات الواقع على الأرض أن إنتصار طرف على الآخر مازال أمراً بعيد المنال لأسباب كثيرة، أهما إنعدام القدرات المادية، وعدم قبول المجتمع الدولي والإقليمي لعملية إحلال قسرية للنظام الحاكم في السودان تخوفاً من الفوضي التي قد تمتد ألسنتها لأطراف القارة الإفريقية. وبالتالي أصبح خيار التسوية هو الإمكانية الواقعية في الأفق المنظور. إن التسوية بشكل عام هي أوضاع تعايش لهذه المشاريع المتصادمة مع بعضها البعض في ظل نظام دولة، لكن خطورتها في واقعنا السوداني تأتي من إنعدام التوازن بين الأطراف المتصارعة والمطلوب منها أن تتعايش لتصنع إنتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي تقبل فيه بعضها بعضاً. هذه المعادلة مختلة بالمرة، ووجه الخلل أن النظام على المستوى التفكير والخطاب ليس مستعداً لعملية القبول، وفي ذات الوقت لديه قدرات مادية وعلاقات في المحيط العربي الإسلامي تمتلك القوة لتفريغ أي عملية سلام أو تعايش مالم تخدم أجندة المشروع العربي الإسلامي في السودان. وفي المقابل فإن أطراف التغيير تنعدم لديها المقدرات المادية التي بإمكانها أن تصنع التغيير الفعلي في بنية الدولة في حال تواجدها في سلطة إنتقالية. بمعني أن أي تسوية ستكون إما جسر لحقبة صراع جديد، أو نهاية لمشروع التغيير في السودان ككل بأي خيارات تفرزها نهايات المرحلة الإنتقالية. والإستنتاج الأخير هو على وجه التحديد يمثل خيارات السودان المحوري، إذ ستكون واحدة من الحلول المنطقية لوقف الحروب هو القبول بدول متعددة في السودان (دارفور، جنوب كردفان والنيل الأزرق)، على نفس النسق الذي تم في حالة جنوب السودان.
3) تراكم رأس المال: ويمثل هذا العامل نقطة مهمة في تفضيل خيار التفكيك، أي أنه يمثل عامل ضغط لصالح مشروع تفكيك السودان وبناء "السودان المحوري". فقد راكمت النخبة الإسلامية العروبية طوال ال 25 عاماً التي أمضتها في الحكم، وتلك التي سبقتها منذ المصالحة الوطنية مع نظام النميري في 1977، رأسمال ضخم مكنها تقريباً من السيطرة على النظم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، حتى أضحت تقريباً معظم المؤسسات الإقتصادية النشطة أو المحركة للهيكل الإقتصادي للدولة هي بشكل أو آخر تتبع لهذه النخب.. وهي في الواقع وبهذه العملية تعمل على بناء إرستقراطيتها الخاصة بها على أنقاض الإرستقراطية التقليدية التي عرفها السودان عبر تاريخه (الإرستقراطية التي تنحدر لقوى الطائفية التقليدية، وتلك الغير مرتبطة بالقوى الطائفية أوا المستنيرة التي خرجت من رحم المستعمر). ومن الجلي وعلى خلفية النزاعات في الأطراف فليس من المتوقع أن تجد هذه الأرستقراطية الإسلامية مكانة لها في مجتمعات الهامش، لذلك فمكانها الوحيد هو فضاءات جديدة تصنعها، وتستطيع التحكم في عملياتها السياسية والإقتصادية. لذلك فإختيار محور (دنقلا سنار + كردفان) وبنفس صيغة المعادلة التي تجعل دنقلا وسنار خط متحد، وكردفان "مردوفة" بالإضافة بعلامة (+) لها ما يبررها وإذا أمعنا قراءة النص مرة أخرى بدقة أكثر سنرى العوامل الضاغطة الثلاثة أمامنا شاخصة...." ... أن الجسم الجيوسياسى فى المنطقة الشمالية المشار إليه أعلاه وسأطلق عليه اختصاراً {محور دنقلا – سنار + كردفان} أكثر تجانساً.. وهو يحمل فكرة السودان العربى / الاسلامى بصورة عملية من الممالك الاسلامية القديمة قبل مئات السنين.. ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسى عربى / أسلامى يستوعبه. وهو "أيضا" الجزء الذى حمل السودان منذ العهد التركى/الاستعمارى/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى فى غير وجود البترول ولهذا فأنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون {أن لم يكن سياسياً فاقتصادياص عن طريق سحب موارد كبيرة منه} لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة يصدق هذا بصورة مختلفة قليلاً حتى إذا ابتعدت دارفور.. رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور حتى لو أنفصلت أو أبتعدت سياسياً". لذلك فإدعاءات الورقة الواردة في فرضيتها السادسة: ..." ان الوحدة قد لا تتم ولهذا يجب أن نعمل للبديل بجد ومنذ الآن وألا نستسلم لافتراض أن الوحدة "ستصبح" جاذبة بقدرة قادر ! أن القوى الاجنبية ذات التأثير الفاعل قد تلجأ لتاجيج نار الانفصال إذا فشلت فى تحويل الوحدة إلى ميكانزم لتفكيك السودان وحكمه على شروط الأقلية غير العربية والاسلامية كما فعلت كل دول الحزام العازل للاسلام جنوب الصحراء (من اثيوبيا إلى السنغال مروراً بنجيريا)! ". هي في الواقع تكريس لواقعة تأسيس "للسودان المحوري" بإرادتهم السياسية الحرة وليست بفعل تأثير القوى الأجنبية كما تدعي (راجع الجملة التي تحتها خط)، وتنطبق على مناطق أخري غير الجنوب. وهي تحتكم على حتمية سيادة العنصر العربي الإسلامي، بإفتراض أن الآخرين "أقلية"!! في حال القبول بالسودان على حاله ككل أو الذهاب بإتجاه السودان المحوري على أرضية التجانس العرقي والثقافي. وعامل تراكم رأس المال الذي نتكلم عنه ذكرته الورقة بقولها..في الإفتراض الرابع" وهو ليس أفتراض بل أنه واقع حصل فى الجنوب وسوف يحصل فى دارفور وبدرجة أقل فى الشرق وهو:انحسار موارد اقتصادية هائلة من المركز الشمالى {محور دنقلا – سنار - كردفان} قد تصل بحسابات اليوم الثابتة الى 65% من موارد الميزانية العامة للدولة.. والى 25% من الناتج القومى الاجمالى للسودان.ويترتب على هذا ضرورة تطوير موارد السودان الشمالى التقليدية بصورة دراماتيكية وسريعة جداً لمقابلة تطلعات أهله اذا أردنا أن نكسب اهل هذا المحور لمشروعنا {السياسى}" .إذا من أين يأتي رأس المال هذا الذي يتم به تطوير موارد السودان الشمالي (+السودان المحوري)؟؟ بالتأكيد هو من أطراف السودان الأخرى.
إذاً، نحن إزاء ثلاثة عوامل تجعل من فرضية التفكيك واللجوء نحو السودان المحوري ذات إحتمالية عالية على الأقل من وجهة نظر مفكري المشروع ... وهي إنهيار المشروع الإسلاموي اليوتوبي واللجوء لخيار التجانس العنصري/الثقافي كمحاولة لإحياء المشروع الإسلاموي في صورته الجديدة، ضعف خيارات التسوية التي بإمكانها الحفاظ على السودان لإفتقارها لأدني مقومات القبول والتعايش بين المشاريع المتصادمة (مشروع السودان المحوري ومشروع التغيير أو السودان على أسس جديدة، وأخيرا تراكم رأس المال). كلها ديناميات تتحكم فيها النخبة الإسلاموية وتقودها بإتجاه تفكيك السودان إلى ما قبل وضعيته الموروثة من قبل 1821.
(3) إنتخابات 2015 القادمة بالسودان خداع النفس والغير أما ماذا؟.
نبدأ مناقشتنا لهذا المحور بسؤال بسيط، هو لماذا الإنتخابات في السودان وفي هذا التوقيت؟ نبدأ الإجابة على هذا السؤال إنطلاقاً من مقولة أوردناها في مقال سابق خصصناه لهذا الغرض وقد رأينا أنه لا ضير من إعادتها لانها تخدم التحليل الجديد الذي نحن بصدده: " تؤكدالكثيرمنالقرائنأنهذهالانتخاباتليستكسابقاتهابالنسبةللحزبالحاكم (وسنجريمقارنةمقتضبةبينهاوبينتلكالتيحدثتفي 2010 لاحقاً). وتكتسبأهميتهاليسلأنهاتمثلمرحلةإنتقالمنشرعيةثوريةإلىشرعيةدستوريةكماتذكرالورقة (المقصود ورقة سبق وأصدرها الحزب الحاكم وصفت إنتخابات 2015 بأنها إنتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية) وبالطبعهيليستمنافسةضدآخرينضمننظامديمقراطي.. إذاماهي؟؟أوبمعنيماذايريدأنيحققالنظاممنهذهالانتخابات؟؟كلالقراءاتالمبنيةعلىالمعلوماتوالتحليلتقولإنهذهالانتخاباتتتملتحقيقغرضينالأول: حمايةالرئيسالبشيرمنمواجهةمحكمةالجناياتالدوليةوبالتاليحمايةالكثيرينمعهوأموالتخصهموتخصالنظام. الثاني: أنهاتتملتحقيقدرجةمنالتوافقأوالتماسكالداخليللحزبالحاكمفيظلالإنقساماتالتييعانيمنها،لأنوجودالبشيرحسبرأيالكثيرين (حتىداخلالحزبالحاكمنفسه) علىالأقلأفضلمنآخرينيعتبرونممنهمخارجخيمةالإسلامالسياسيولاينتمونلتاريخه،والذينبرزتلهمأنيابوأظلاففيالمرحلةالقصيرةالماضيةوأصبحوايشكلونتهديداًخطيراًلكثيرمنالمتنفذينوربماللنظامبأسره. هذههيالأسبابالحقيقيةمنقيامالانتخاباتوعلىالآخرينأنلايهدرواالجهدوالمواردفيقضيةلاتخصهم" . الإسباب التي أشرنا إليها بإعتبارها الأسباب الحقيقة لقيام هذه الإنتخابات ظلت كما هي: حماية الرئيس البشير من مطاردة محكمة الجنايات الدولية له وحماية أموال الحركة الإسلامية عن طريق الإبقاء على النظام بأي صورة كانت. ما نود توضيحه هو كيف تحمي هذه الإنتخابات الرئيس البشير؟
1) إنتخاب البشير رئيساً مرة أخرى سيعطيه تلقائياً حماية وحصانة ضد أي عملية إعتقال، ذلك لأن إعتقال رؤساء الدول لا يتم بالطرق التقليدية التي يتم بها إعتقال المجرمين العاديين مثال أن تقوم بذلك مجموعة من الإنتربول بتوقيفه وأجباره على الصعود على عربة أو طائرة وحمله إلى أقرب مركز شرطة للإنتربول، فالأمر ليس كذلك. إن إعتقال رؤساء الدولة يتم بصورة معقدة للغاية وتلعب فيه عوامل مصالح الدول المختلفة دوراً محورياً، وسيفتح الباب أمام كثير من الجدل حول جدزى العلاقات الدولية، ومفهوم السيادة الوطنية، وهل تطورت هذه المفاهيم في معاملات الدبلوماسية الدولية بالقدر الذي يجعلها ترى أن عملية إعتقال رؤساء الدول المطلوبين أمراً ممكناً؟؟ لا أظن أن ذلك وحتى الأن من الأمور الممكنة. وبالتالي فبالبشير وأركانه يدركون ذلك تماماً، وما يؤكد على ذلك أن محكمة الجنايات الدولية نفسها ليست لديها سلطة الإعتقال المباشر وإنما توجه الدول التي يذهب إليها البشير بإعتقاله، وهناك من له إستعداد لتنفيذ وآخرين ليسوا لديهم إستعداد، وكل تدفعه مصالحه أكثر مما تحركه الجرائم التي أرتكبها البشير وأعوانه. لذلك هذه الإنتخابات وببساطة هي أن البشير أدخل المجتمع الدولي في مأزق أعتقاله مرة أخرى.
2) يريد البشير من هذه الإنتخابات أن يكسب 9 سنوات إضافية!! كيف تكون 9 سنوات بينما الفترة المدونة للرئاسة هي 5 فقط!! إذا فاز البشير (وهذا أمر مفروغ منه بالطبع) سيضمن بقائه لمدة 5 سنوات هي عمر فترته الرئاسية بنص الدستور. وحسب منطق الخوف المتسلط في رقبته من الجنائية سيعمل للبقاء حتى أخر يوم في سدة الرئاسة، وبعدها سيوقع على إي إتفاقية سلام مع الحركات المسلحة ليضمن إستمرايته على رأس حكومة الفترة الإنتقالية لمدة 4 سنوات أخرى(حسب المقترحات التي قدمت لإنهاء الحرب في السودان).. أذن مجموع السنوات هو 9 سنوات بالتمام والكمال بمعني من المتوقع أن يبقى البشير حتى 2024 بالتمام والكمال ما لم يحدث شئ يغير من هذا المسار.
خاتمة:
لذلك هذه الإنتخابات لا قيمة لها في بورصة البناء الديمقراطي، فهي عملية مصممة بالكامل لغرض وحيد وهي حماية شخص فرد من مواجهة جرائمة التي أرتكبها.. مساعدته قدر الإمكان للهروب إلى الأمام إلى أن يقول القدر كلمته فيه. والمؤسف أن كثيرون يمارسون خداع النفس بأن المشاركة فيها هي نوع من التمارين الديمقراطية (بتعبير الصادق المهدي)، ولكن حتى التمارين لها منطقها وبيئتها وشروطتها التي تتحقق فيها فالفرق الرياضية التي تتمرن في ميادين مهيئة بالتأكيد تحرز نتائج أفضل من تلك التي تتمرن في ميادين سيئة الإعداد.
ثلاثة عناصر متداخلة (مشروع السودان المحوري، التحولات داخل النظام والنظام الخالف والإنتخابات الرئاسية) كلها تشكل في مجمل تفاعلاتها مساراً يؤدي إلى التفكيك الحتمي للسودان كما عرفناهوأتمني أن يكون تحليل هذه العناصر وتفاعلاتها قد سلط ولو قدراً يسيراً من الضوء على رؤيتنا. وبالتالي؛ أضاء ولو القليل من الطريق أمام مشاريع التغيير وقواها. كل ذلك حتى لا يأتي الوقت الذي نقف فيه مودعين لما تبقي من السودان كما وقفنا في 2011 مودعين لجنوبه.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.