عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) وصلاً لحديثي عن أولئك الوزراء الذين سمقت قاماتهم أمام التحديات، أحكي لك عزيزي القاريء عن محمد أحمد المحجوب وزير خارجية السودان في أواسط الخمسينات ، وأيضا في أواسط الستينات من القرن الماضي. في كتاب مذكراته المعنون : "الديمقراطية في الميزان " والصادر في الخرطوم عام 1986، يحدّث المحجوب عن التحديات التي واجهها إبان سنوات الحرب الباردة تلك. هي حقبة احتدمت فيها نُذر الخلاف الايديولوجي بين العالمين الغربي والشرقي، والذي انشطر فيه العالم العربي وقتذاك، ازاء سياسات التغول الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. كتب المحجوب في كتاب مذكراته : (.. تصادمت مشاريع وطنية وقومية مع مشاريع ذيولها تعبث في الشرق الأوسط ورؤوسها في واشنطن . مبدأ ايزنهاور - الرئيس الأمريكي عام 1958 - مطروح في الساحة ومعارك الحرب الباردة على أشدّها. كميل شمعون رئيس لبنان لا يكاد يبدي أي تعاطف مع مصر عبد الناصر بعد الغزو الثلاثي في 1956، والمسلمون السنة يتململون في بيروت. لم يتعاطف شمعون مع الجمهورية العربية المتحدة وهو مشروع الوحدة الذي تبناه ناصر مع القوتلي في سوريا. الأسطول الأمريكي يقترب من سواحل لبنان، وكأن الوحدة السورية المصرية صارت مهدداً أمنياً لتراب لبنان. يقع انقلاب في العراق يضرب آمال الإدارة الأمريكية في الصميم، وجثة الملك تسحل في شوارع بغداد. لبنان يشتعل وتتفاقم الأزمة. يريد لبنان وقتها أن يتجاوز الجامعة العربية، وكانت عضويتها لا تتجاوز العشرة دول، بينها السودان، فيسرع وزير خارجيتها شارل مالك يدفع بشكوى بلاده لمجلس الأمن متهماً الجمهورية العربية المتحدة (سوريا + مصر) بالتدخل لتغيير نظام الحكم في لبنان. يتداعى العرب في أواسط عام 1958 في الأممالمتحدة ، ويجمعون على مشروع قرار يدين التدخل في الشئون الداخلية للدول ويدعو لسحب القوات الأجنبية من المنطقة . .) هكذا كان يرى المحجوب أن الشرق الأوسط صار ساحة لمناورات الغرب والشرق. كبار أفيال السياسة تعبث والحشائش تدفع الثمن.. (2) قاد وفد السودان إلى الأممالمتحدة ذلك الزمان، محمد أحمد محجوب وهو وزير الخارجية. لم يقتصر دوره على رئاسة وفد بلاده، بل كان هو الدينمو الذي حرّك المواقف وأحكم الصياغات. أجمعت الوفود العربية أن يتولى محمد أحمد محجوب مخاطبة الأممالمتحدة، نيابة عن مندوبي الدول العربية العشرة حول شكوى لبنان عام 1958 . ذلك الاختيار لم يكن محض صدفة، بل هو تتويج لجهد بذله الرجل في تقريب وجهات النظر، واعتماد حيادية نابعة من وضعية السودان المُميزة، والتي لم تكن منحازة مع أيّ مشروع ضد مشروع آخر. كان جلياً أن للسودان ذلك الأوان، مكانة لا يشكك فيها عضو من أعضاء الجامعة العربية، ولا يستاء منها غاضب، وليس مثل الآن مقصيّ عن قطيعه. حين تداعت الدول جميعها في الجمعية العامة، وجد المشروع العربي تأييداً كبيراً. لم تكن الجولة لصالح أتباع المشروع الأمريكي المعروفين، أو أولئك القابعين خلف ستار. كان المحجوب بفكره الثاقب ولسانه الذرب وحضوره الآسر، هو نجم القرار، والذي بعد اعتماده انسحبت قطع الأسطول الأمريكي من سواحل لبنان، ولكن برغم ذلك، لم يكن "كميل شمعون" راضياً كامل الرضا ، ولا وزير خارجية بلاده – صديق المحجوب- الدكتور "شارل مالك" .. (3) سبتمبر 1958. . يقترب موعد الدورة الثالثة عشر للجمعية العامة للأمم المتحد لاختيار رئيس لها. أجمعت الوفود العربية على ترشيح محجوب وزير خارجية السودان للرئاسة . وفيما لم يكن من منافس له حتى الأيام القليلة الفاصلة ، فإذا بلبنان يدفع بوزيره "شارل مالك" لينافس محجوباً على منصب الرئاسة. لم يكن عسيراً على محجوب أن يفهم أن السياسة شيء والصداقة الشخصية أمر آخر، حتى وإن كان لمحجوب كل ذلك التقدير الذي جاءه من زملائه رؤساء الوفود العربية في نيويورك، أو التعاطف الكبير من أصدقائه الكثر في بيروت، وأولهم شارل مالك نفسه. صديقه الذي يقاسمه اهتماماته من محبة الفلسفة إلى الشعر الإنجليزي. . يحكي المحجوب كيف طلب "فوستر دالاس" وزير خارجية الولاياتالمتحدة الشهير في سنوات الخمسينيات تلك، أن يلتقيه في فندق "والدورف استوريا" في نيويورك ، ولم يكن لقاءاً ودياً، إذ للمحجوب أنفٌ لا يُذل وكبرياء باذخ . اقرأ معي ما جاء من محجوب في كتابه "الديمقراطية في الميزان" عن تلك الواقعة: (كانت علاقتي بالدكتور مالك حسنة، وإن كنت أشعر بأنه جرّ إلى الدبلوماسية متردّداً، وأنه كان يفضل البقاء في الجامعة (... ) كان التماس الأصوات شديداً. اضطرب فوستر دالاس حين تبين أن أكثرية الوفود تميل إليّ، فحضر من واشنطن إلى نيويورك لتأييد مالك، وذهب في ذلك إلى حدّ أن أبرق إلى مختلف رؤساء جمهوريات أمريكا اللاتينية، وهدّد وفودها في الأممالمتحدة بقطع المعونة الأمريكية عن بلادها إذا لم تنتخب شارل مالك. .) حين التقاه المحجوب في ردهات مبنى الأممالمتحدة، عبّر له "دالاس" عن أسفه لعدم تأييد ترشيحه من قبلهم ، قائلاً : "فقد وعدنا بذلك الدكتور مالك قبل وقت طويل". كتب المحجوب عن الواقعة: (كان المندوبون والصحافيون واقفين على مسمعٍ منا حين أجبته : "شكراً يا حضرة الوزير. أفهم أن تعطوه صوتكم لأنكم وعدتموه به، أما ما لا أستطيع فهمه فهو جمعك الأصوات له وتهديدك مندوبي أمريكا اللاتينية. دعني أقل لك أنني أعتدت تماماً الفشل والنجاح، والفشل بالنسبة لي هو الخطوة الأولى نحو النجاح. لكن بلدي لن يغفر أبداً هذه الأساليب، وسينظر دائما إليك بازدراء". . .) (4 ) برغم اشتداد التنافس وسخونة الصراع بين أسدين حول من يرأس الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنك لا تملك إلا أن تنحني احتراماً لقامتين سامقتين، مثل اللبناني شارل مالك والسوداني محمد أحمد محجوب. بعد أن فاز "شارل مالك" برئاسة دورة الجمعية العامة عام 1958. هبّ محجوب مهنئاً مالك : " السيد الرئيس ، دعني أسوق التهنئة إليك بعد انتخابك لرئاسة الدورة الثالثة عشرة للجمعية العامة . إن قدراتك الشخصية ، كما خبرتك وخصالك الأخرى، قد عززت جدارتك لتولي هذا المنصب الرفيع . وأن تنافسي معك في هذه الانتخابات لنيل هذا المنصب ، لا يقلل بأيّ حال من الأحوال من احترامي لشخصكم ومن تقديري السامي لبلادكم لبنان . وأن انتخابكم منحني من السعادة بما أشعرني وكأني أنا الذي انتخبت له شخصياً . ." ثم غادر المنصة ليشدّ على يد شارل مالك مهنئاً ، والتقط له المصورون هذا المشهد المؤثر والنبيل ، والذي صار من المشاهد التي وثقت في طابعٍ من طوابع الأممالمتحدة الشهيرة . . أولئك وزراء كانوا بحجم التحديات، وبحجم الأزمات.. (5) من الصعب عقد المقارنات بين وزراء ذلك الزمان وبعض وزراء اليوم، ممّن يهوون البقاء وراء الكواليس، وربما أيضاً يميلون إلى التلاعب بالمواقف والعبارات المبهمة، بما يوافق الأنظمة الشمولية التي جاءت بهم . كان أيّ وزير من وزراء ذلك الزمان ملءَ السمع والبصر، بل وملء جميع الحواس... أما أكثر وزراء هذا الزمان، فهم كذلك أبناء واقعهم الماثل . . . ولا أزيد.. كاتب وسفير سابق