عادل الباز يكتب: المسيّرات… حرب السعودية ومصر!! (2/2)    المسابقات تجيز بعض التعديلات في برمجة دوري الدرجة الأولى بكسلا    صلاح-الدين-والقدس-5-18    المضادات الأرضية التابعة للجيش تصدّت لهجوم بالطيران المسيّر على مواقع في مدينة بورتسودان    ما حقيقة وجود خلية الميليشيا في مستشفى الأمير عثمان دقنة؟    محمد وداعة يكتب: عدوان الامارات .. الحق فى استخدام المادة 51    الولايات المتحدة تدين هجمات المسيرات على بورتسودان وعلى جميع أنحاء السودان    التضامن يصالح أنصاره عبر بوابة الجزيرة بالدامر    اتحاد بورتسودان يزور بعثة نادي السهم الدامر    "آمل أن يتوقف القتال سريعا جدا" أول تعليق من ترامب على ضربات الهند على باكستان    شاهد بالفيديو.. قائد كتائب البراء بن مالك في تصريحات جديدة: (مافي راجل عنده علينا كلمة وأرجل مننا ما شايفين)    بالفيديو.. "جرتق" إبنة الفنان كمال ترباس بالقاهرة يتصدر "الترند".. شاهد تفاعل ورقصات العروس مع فنانة الحفل هدى عربي    بالفيديو.. "جرتق" إبنة الفنان كمال ترباس بالقاهرة يتصدر "الترند".. شاهد تفاعل ورقصات العروس مع فنانة الحفل هدى عربي    شاهد بالفيديو.. شيبة ضرار يردد نشيد الروضة الشهير أمام جمع غفير من الحاضرين: (ماما لبستني الجزمة والشراب مشيت للأفندي أديني كراس) وساخرون: (البلد دي الجاتها تختاها)    شاهد بالصورة.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل تسابيح خاطر تنشر صورة حديثة وتسير على درب زوجها وتغلق باب التعليقات: (لا أرىَ كأسك إلا مِن نصيبي)    إنتر ميلان يطيح ببرشلونة ويصل نهائي دوري أبطال أوروبا    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    ترمب: الحوثيون «استسلموا» والضربات الأميركية على اليمن ستتوقف    والي الخرطوم يقف على على أعمال تأهيل محطتي مياه بحري و المقرن    من هم هدافو دوري أبطال أوروبا في كل موسم منذ 1992-1993؟    "أبل" تستأنف على قرار يلزمها بتغييرات جذرية في متجرها للتطبيقات    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    أموال طائلة تحفز إنتر ميلان لإقصاء برشلونة    بعقد قصير.. رونالدو قد ينتقل إلى تشيلسي الإنجليزي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قٌم للمعلم وفه التبجيلا .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 04 - 04 - 2016

الملائكة من مخلوقات الله تعالى، التي نؤمن بها، لكن هي مخلوقات لا يراها الإنسان العادي. والمخلوقات التي لا يراها الإنسان يصعب تخيلها إذ أن الدماغ يعمل بالمقولة " ليس من رأى كمن سمع". لكن يمكن القول إن الإنسان عندما تسمو روحه إلى مرتبة المرئية الملائكية، التي لا تحكمها الشهوات، فإنه يمكن أن يراها لأنها تتواجد في أماكن الطهر والعفاف وتشهد مجالس القرآن والعلم والذكر. ولذلك فالنبي، صلى الله عليه وسلم، وسيدنا إبراهيم ولوط والسيدة مريم عليهم السلام، والصحابة رضى الله عنهم، رأوا الملك جبريل وملائكة آخرين فبصرهم حديد. ولذلك تكون القاعدة كلما زاد صلاح المرء وورعه وزهده في الدنيا زادت في المقابل قوة بصره ليرى الملائكة، من خلال البصر الحديد، وهم يتمثلون ببعض الناس.
سقت لكم هذه المقدمة لتتخيلوا معي إذا سمعتم من يقول إن فلاناً إنسان ملاك أو إنسان ملائكي أو أن هناك بشراً كالملائكة. فكما تعلمون الملاك خُلق من نور والإنسان خُلق من طين لذلك أول ما يتبادر للذهن أن الملائكة أفضل مقاماً من عباد الله الصالحين. ولا خلاف في ذلك بسبب أن الملائكة نُزعت منهم نوازع الشر والعصيان وهى من طبيعة البشر الذين يغالبونها، كما أن هناك صفات وأخلاق تسمو بمقام الملائكة فوق مقامات البشر نوجزها في أنهم كرام بررة ومعصومون من الذنوب والمعاصي، مهمتهم العبادة وطاعة الله والتسبيح بحمده وعاملون بأمره، ومن صفاتهم الحياء والجمال والعفة والقوة والشدة، والعلم الوفير، ومن صميم أعمالهم هداية البشر وتنفيذ إرادة الله وتدبير أمور الكون والمساعدة في عبادة الله وسفراء الله لرسله وأنبيائه، لا يأكلون ولا يشربون ولا يفترون ولا يسأمون ولا يستكبرون. هذه هي صفات الملائكة بإيجاز شديد. وستجدون ما هو أكثر وأعم من ذلك في آيات الذكر الحكيم. الشخصية التي أنا بصددها اليوم هو إنسان لكنه ملاك يتحلى بكل صفات وأخلاق الملائكة. هذا الملاك الطاهرهوالشيخ جمال الرجل الذي جاب كل ربوع السودان شبراً شبرا حاملاً في يديه شعلتين شعلة العلم وشعلة الإسلام.
للذين لا يعرفون ذلك الرجل هو طيب الذكر الأستاذ الحاج جمال محمد صالح، وسار عليه بصفة عامة "الشيخ جمال" وبصفة خاصة "جمال حبيبة" وهي والدته المرأة الطيبة "حجة حبيبة" رحمها الله. ولد بقرية "دبيرة" بمدينة وادى حلفا في عام 1924 وتوفى في عام2010، درس المرحلة الأولية في مدرسة دبيرة الأولية والمرحلة المتوسطة في وادى حلفا ثم انتقل إلى معهد بخت الرضا وتخرج منها ليعمل معلماً في المدارس الأولية في وزارة التربية والتعليم، وتلقى تدريباً في طرق التدريس في مدينة شندي ثم انطلق منها في مسيرة التعليم الطويلة التي فاقت ستين عاماً تجول فيها في كل أرجاء السودان من وادى حلفا إلى دلقو وشندي والسروراب وجاد الله وجبل قرين والعبيدية وجزيرة مقرات و ود عشانا وقلع النحل وأم كدادة وميرى في منطقة جبال النوبة وحلفا الجديدة وقرى العرب في أرض البطانة وكسلا إلى أن تقاعد في سن المعاش مفتشاً للتعليم في مجلس ريفي حلفا الجديدة. لكن مسيرة التعليم الديني والدعوى لم تتوقف إلا بوفاته بل ظلت تسير بخطى أسرع حين تفرغ تفرغاً كاملاً لحلقات التلاوة والحديث في المساجد ليخرج قبل آذان الصبح ويعود إلى داره بعد صلاة العشاء إلا ما يتخللها من أوقات قليلة للطعام. وهنا لا بد أن أذكر أن البروفيسور أحمد على قنيف، وهو أحد تلامذته، كان في زيارة عمل لمؤسسة حلفا الجديدة الزراعية حينما كان وزيراً للزراعة وأراد أن ينتهز هذه الفرصة لزيارة أستاذه كنوع من الوفاء " فمن علمك حرفاً صرت له عبداً "، وعلم أن الشيخ جمال في المسجد لصلاة العصر ولا يعود إلى داره إلا بعد صلاة العشاء حيث يعقد حلقات التلاوة والذكر والدروس الدينية يومياً فقال البروف قنيف قولته المشهورة " أربعون عام مضت وهو دائب على ذلك!" وقيل إن البروف قنيف في اجتماعه مع المسؤولين في المؤسسة الزراعية في صباح اليوم الثاني ترك الحديث عن الزراعة وأسهب في الحديث عن شخصية الشيخ جمال وإخلاصه في التعليم والدعوة وأفضاله على الناس. كان زواجه في عام 1946 من الأسرة في القاهرة وأنجب من البنات أربع فاطمة ومريم وخديجة وعائشة اللواتي سمّاهن تيمناً بزوجات وابنة الرسول صلى الله عليه وسلم والسيدة مريم ابنة عمران (رضي الله عنهن) ومن الأبناء أربعة محمد وعلى وأبوبكر وعثمان سماهم تيمناً بالرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين (رضى الله عنهم). ولأنه لم يُرزق بولد آخر ليسميه عمر تيمناً بالخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقد اطلق اسم عمر على ابن أخيه المرحوم دسوقي.
كان يتميز الشيخ جمال بالورع الديني وأخلاق القرآن الكريم وكان مطبقاً لأوامره من صلة الأرحام ومعاودة المرضى والصدقات وإطعام المسكين وإزالة الأذى عن الطرقات وكان شعاره في الحياة " أفشوا السلام وصلوا الأرحام وقيموا الليل والناس نيام". وكان قلبه معلق بالمساجد لذلك عندما كان يعمل معلماً في العبيدية شمال مدينة بربر قام بالتعاون مع جماعة حي الطريف، وبمبادرة منه، في تشييد مسجد الطريف بالطوب الأحمر وعمل فيه حلقات للدروس وتحفيظ القرآن ومنهم "الحاج الضو" الذي كان أول من حفظ القرآن ثم أنشأ مسيد معروف باسمه حتى الآن في العبيدية. وعندما تم نقله من العبيدية إلى جزيرة مقرات بالقرب من مدينة أبوحمد قامت ثورة احتجاجية من رجال العبيدية ونسائها إلى أن حضر مفتش التعليم من الدامر وحل الإشكال بإقناع أهالي العبيدية بوعد بأن ثمة عقبات في مدرسة جزيرة مقرات يزيلها ويعود إليهم بعد حين وقد كان. وذهب وبذل جهدا مقدراً في تنظيم الدراسة وتحسين شكل المدرسة والداخلية في مقرات وزرع فيها عدد من النخيل الباسقات تعرف حتى الآن باسمه. وما يزال أهل العبيدية وجزيرة مقرات يتبادلون معه وعائلته الزيارات في الأفراح والأتراح حتى تاريخ اليوم وبعد وفاته.
كان منهجه الديني صوفياً يسير على "الطريقة التيجانية" رغم قلتهم في مناطق الشمالية وكان يشاركه في هذه الطريقة من المنطقة عدد قليل يعدون على أصابع اليد الواحدة وهما أبناء خالتيه الأستاذ محمد عثمان عليش والشيخ سيد محمد صالح أبوغلابة والأستاذ إسماعيل أيوب وأغلب الظن أن أربعتهم عملوا في غرب السودان لذلك تأثروا بالطريقة التيجانية. ولمن لا يعلمون، فالطريقة التيجانية بدأت في مدينة "فاس" المغربية ومؤسسها هو "الشيخ سيد أحمد التيجاني الأول" المولود في الجزائر عام 1737 وامتدت الطريقة من شمال أفريقيا إلى غربها ومن ثم إلى السودان ربما عن طريق الشناقيط. وتوجد الآن عدة مراكز للطريقة التيجانية في كردفان ودارفور لكن أشهرها مركز آل حجاز أو زاوية الشيخ مجذوب المدثر بأمدرمان ويعتبر السودان الآن أكبر دولة بها أتباع للطريقة التيجانية ويزورها كبار شيوخ الطريقة التيجانية من الجزائر والمغرب وموريتانيا من وقت لآخر. ولسماحة الشيخ جمال لم يمنع ابنه علي من دخول معهد الموسيقى والمسرح لتعلم الموسيقى والغناء في وقت مبكر إلا أن ابنه ترك الدراسة فيها بمحض إرادته بعد أن قطع فيها شوطا. وسوف تعلمون رأيه في الغناء فيما بعد.
كان غالبية أصدقائه من المعلمين الذين جابوا كل أرجاء السودان وسوف أذكر الأسماء التي أعرفها لعلمي أن السودانيين لهم وفاء تام واحترام بلا حدود لأساتذتهم في مراحل التعليم المختلفة ويحبون أن يسمعوا عنهم لأن مجرد ذكر أسمائهم يثير فيهم ذكريات الطفولة والشباب أو ما يُعرف بالزمن الجميل. وما يزال أستاذي العالم "الطيب السلاوي"، أطال الله في عمره، يكتب عن المدارس وأخبار المعلمين وسيرتهم من وقت لآخر والتي يتابعها الطلاب والمعلمون بشغف شديد. ومن المعلمين من أصدقاء الشيخ جمال الأساتذة على طرفة ومصطفى عبدالرزاق ومحمد شريف فضل وحسن أمين ولياب ومحمد سعدالدين شاطر ومحمد صالح قاسم وصالح قتة. ومن الذين أثّروا في حياته منذ الصغر الحاج محمد صالح تيلكاق والحاج على محمد آدم حيث كانا من كبار وعقلاء القوم في منطقته التي كانت متاخمة لمنطقة سوق الخميس المشهورة.
أما عن موقفه السياسي فقد وقف مع الجبهة القومية الإسلامية في كل العهود تأييداً للشعارات الإسلامية وتحدث في الندوات والليالي السياسية مناصرا لمرشحيها ومعه صديقه الراحل المعلم الأستاذ محمد خليل دونا، طيب الله ثراهما، إلا أنهما انقلبا على الوضع حين رأيا سقوط الشعارات والظلم الذى وقع على الناس وحاق بالمجتمع خاصة في منطقتهم بهدم نظام التعاونيات والمؤسسات الزراعية وتشريد مؤسسيها فوقف الشيخ جمال يدافع بقوة في النقابات والتجمعات الأخرى عن أصحاب الحق ورفع صوته مطالباً بالإنصاف ورد الحقوق إلى أهلها ورجالها الأوفياء الذين خبروهم.. وقد تألم كثيراً لعدم قيام الدولة الإسلامية العادلة التي كان ينشدها.
عندما أكتب عن شخص ما فقد تعودت أن أذكر وقائع وأحداث معينة عن الشخص ذاته، قد تكون هي خاصة، لكنى أذكرها لأن الأمثال والوقائع دلت على أنها أكثر تأثيراً من الكلام المجرد لأنها تقرب الصورة للعقل وتجلب الانتباه بصوره حسية مرئية فتصيب المعنى المراد، كما أن ذكر الأسماء هو للتوضيح ليس إلا. ولذلك سوف أطوف بكم حول بعض الأحداث والوقائع الهامة التي حصلت إبان حياة طيب الذكر المرحوم الشيخ جمال حيث كان هو صانعها أو محورها.
في البلد وادي حلفا كانت الجنائن والحدائق المثمرة قليلة وغالباً يمتلكها العمدة أو ناظر الخط أو شيخ الحلة ونفر قليل من هم دون ذلك. وكانت "الحجة حبيبة" تمتلك جنينة كبيرة مثمرة فيها ما لذ وطاب من الفواكه.. وكان الشباب ينتهزون الفرص في الليل لسرقة الفواكه من الجنائن للأكل والبعض مغامرة والبعض حسادة. لكن الشيخ جمال كان يأخذنا معه في الإجازات إلى حديقة والدته ويتركنا فيها لساعات طوال فنملأ بطوننا وأكياسنا بما لذ وطاب وترعانا والدته الطيبة بالفطور والشاي وحنانها الذي يفوق الحد فنقضى أحلى أيام الإجازة المدرسية معهم. ومن هنا بدأت علاقتي بالشيخ جمال.
كنت طالباً في مدرسة وادي سيدنا الثانوية فى نهاية الستينات من القرن الماضي وكنا مجموعة من الطلاب من منطقة واحدة، وكان الشيخ جمال يعمل معلماً في بلدة ود عشانا في ولاية كردفان وكان يرسل لي شهرياً كبون بريدي من فئة الخمسون قرشا رغم أن والدي عليه الرحمة كان يرسل لي جنيهاً واحداً شهرياً كانت تكفيني بل وتفيض عن حاجتي لأننا كنا أولاد حكومة نأكل ونشرب مجاناً على حساب المدرسة. وعندما حكيت ذلك لأخي أمين، الذي يصغرني وكان معي في وادي سيدنا، علمت أنه كان يأتيه أيضاً من الشيخ جمال كبون بريدي بنفس المبلغ، وعندما ذكرت ذلك لطالب آخر قال لي أنه يعيش على ذلك المبلغ الذي يرسله له الشيخ جمال.. وهكذا اتضح لنا أنه كان يرسل نفس المبلغ لعدد كبير من الطلاب، فكنا نحسب ثم نستغرب أن جزءاً كبيراً من مرتب الشيخ جمال كان يذهب لإعانة الطلاب في وادي سيدنا فقط ولا ندرى ماذا كان يتبقى له ولبيته! ويقال في فترة ما أن زوجته، يرحمها الله، كانت، باتفاق مع السلطات، تذهب إلى المجلس البلدي آخر كل شهر وتستلم جزءاً من راتبه نيابة عنه قبل أن يوزعه كله على المحتاجين.
ربما لا يصدق بعض القراء بأن الشيخ جمال هو الذي شجع صهره، زوج ابنته الكبرى، على الزواج مثنىً لإنجاب الذرية حيث أن زوجها المرحوم "جمال قنصل"، الذي تربى عنده منذ طفولته وصار مثل ولده الأكبر، لم يفكر أبداً في الإقدام على تلك الخطوة إلا أنه أقنعه شرعاً وسهل عليه الأمر... بل ذهب أبعد من ذلك فقد كان وكيله في عقد نكاح زوجته الثانية وفرحوا جميعاً بذرية جمال الابن. هكذا كان الرجل طيباً ومنصفا ولو تحامل على نفسه.
رغم انشغال الشيخ جمال في قضايا التعليم والدعوة إلا أنه كان خفيف الظل فيه روح الطرفة والمرح حاضر البديهة وسوف أتناول هنا بعضاً من قفشاته الكثيرة. التقيت به ومعي صديق يعمل معلماً في إحدى القرى صباح يوم أحد في سوق المدينة وكان الشيخ جمال يعمل حينها مفتشاً للتعليم في تلك المنطقة. فتفاجأ المعلم بالشيخ جمال وأصابه الحرج وتلعثم في الكلام حين أراد أن يبرر غيابه عن المدرسة في يوم عمل.. وقبل أن يكمل المعلم حديثه فهم الشيخ جمال الحاصل وقاطعه: " لم أسألك عن ذلك.." حيث انطبق عليه المثل " الحرامي في رأسه ريشة "..ومن فرط الخوف رأساً تركني المعلم حتى بدون استئذان، وهرول نحو أول حافلة متجهة إلى حيث يُدرس. لقد كان حريصاً على مصلحة الطلاب وإدارياً محنكاً يعرف كيف يتعامل مع المعلمين إذا أهمل أو تقاعس أحدهم في عمله.
وأيضاً من قفشاته فقد استنجد به المعلمون في لقاء مع الوالي في كسلا لحل بعض مشاكل التعليم في الولاية وحُدد له من الزمن 5 دقائق فقط للحديث.. وبدأ حديثه قائلاً: " في هذا الوقت كل شيء قد تغير في هذه الدولة لكن ما كنت أدرى أن زمن المعلم أيضاً قد تغير! فأنا معلم أكثر من خمسين عاماً والمعلم زمنه المعروف 40 دقيقة وسوف لن أرضى بغير ذلك.." فضحك الجميع بمن فيهم الوالي وصرح له بزمن مفتوح.. وصفق له المعلمون وعلقوا : " يا مولانا دا أول حق يرجع للمعلمين وعقبال البقية.." كان يقول الحق ولا يخاف لومة لائم ولذلك كانوا يقدمونه في القضايا والاجتماعات النقابية ليمثل صوت الحق.
أيام التحضير للانتخابات في عهد الديمقراطية الثالثة، صادف أن خيمة الحزب الشيوعي نُصبت بالقرب من منزل الشيخ جمال. ففتح لهم بابه وكان يمدهم بالطعام والماء والمشروبات طوال اليوم.. فقال له السيد/ مختار الخطيب السكرتير العام للحزب الشيوعي الآن: " أتعبناك معانا يا مولانا.." فرد عليه قائلاً: " يا ولدى لا نديك صوت لا نديك موية كمان...!" هكذا كانت النفوس كباراً وهكذا كان التنافس وهكذا كان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
كان الفنان الكبير محمد وردى، رحمه الله، يعرف الشيخ جمال بحكم الزمالة في مهنة التدريس والمنطقة وكلاهما لهما معجبين ومريدين. ولتلك المعرفة ولإعجابه بصوت الفنان وردى كتب له في سبعينات القرن الماضي ناصحاً له بأن يترك الغناء ويتجه نحو المديح. وكان الفنان وردى دائماً يضحك ويتندر للمعارف قائلاً: " الشيخ جمال نصحني بأن أترك الغناء وأنشد المديح لكنه لم يدلني كيف سيشتغل العداد!". والآن وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً دخل الفنانون عالم المديح وأدخلوا الآلت الموسيقية الحديثة كما فعل بعض الفنانون أمثال خالد الصحافة ومعتز صباحي وعقد الجلاد وفرقة الصحوة وعداداتهم "شغالة تش" كما يقولون. لقد صدق حدس الشيخ جمال حينما نصح الفنان وردى قديماً.
كان يزور الخرطوم بين الفينة والأخرى لمتابعة قضايا ومشاكل التعليم مع الوزارة وكان أثناءها يقيم مع أهله في الصحافة. ومن شدة تمسكه وحرصه على الطهارة كان يأمر ألا تُغسل ملابسه في الغسالة مع ملابس الآخرين ولذلك كانوا يعقدون غسله خاصة ومنفردة لملابسه. إلا أنه وبمرور الزمن لاحظ أن أهله هؤلاء ورفاقهم في الخرطوم يقومون بتكفل علاج المرضى من البلد ومساعدة المساكين ورعاية الطلاب وإعانة المحتاجين وحل مشاكل البلد بعلاقاتهم وكل أعمال الخير المطلوبة، وكل ذلك كان على حساب أوقات عملهم وأوقاتهم الخاصة وعلى حساب راحتهم وراحة زوجاتهم وأولادهم في بيوتهم. فتأثر لهمتهم وشهامتهم وتحدث إليهم يوماً قائلاً : " يا أبنائي.. أنتم أفضل عند الله من الشيوخ والعلماء وستدخلون الجنة قبلهم.. فقط عليكم مهمة واحدة سهلة.. وهي إقامة الصلاة..". كان ذلك إنصافاً للشباب فالدين المعاملة فلا خير في صلاة بدون العمل على أوجه الخير والمعروف الكثيرة التي أمرنا الله بها، كما إنه لا عمل صالح بدون الصلاة.
كانت له أعمال جليلة يقوم بها أينما ذهب وكان ينقل الخبرات من مكان إلى مكان ويقال إنه عندما كان يعمل في منطقة ميري بجبال النوبة هو أول من أدخل حراثة الأرض باستعمال الثيران في المحراث في تلك المنطقة حيث كان يكثر فيها الثيران وبها أراضي خصبة. وعند عودته من الإجازة اصطحب معه ثلاثة خبراء في الزراعة من منطقته في الشمالية لميري حيث حرثوا وزرعوا ودربوا السكان على صناعة الحرث وطريقته وعادوا إلى بلدهم بعد إنجاز المهمة والتي كان لها دور في بداية التوسع في الزراعة في تلك المنطقة. وأيضاً لاهتمامه بالزراعة كان يزرع في كل المدارس التي درّس فيها وكان يوزع الأساتذة معه للإشراف الزراعي. وكانت المدارس تبيع المنتوجات الزراعية وأشجار البان للاستفادة من ريعها في دعم أنشطة المدارس. وكان من مبادراته في أحلك ظروف البلاد أيام الأزمات التموينية بناء أفران خاصة بالطلبة والمعلمين حتى لا يتضرر الطلبة وتستمر الدراسة ونجحت فكرته وعممها زميله الأستاذ المرحوم محمد شريف فضل، طيب الله ثراه، في مدارس الولاية عندما كان مفتشاُ للتعليم في كسلا.
وبما أنه جاب كل أصقاع السودان سألته يوماً عن أي البلاد أحب إليه ولماذا...فتردد في الإجابة ثم قال: "كل بلدة لها محاسنها وناسها وحبها. لكن السروراب وأهلها لهم محبة خاصة، فأهلها أصحاب علم ودين وأدب وكرم وشهامة وعشرة." وذكر لي عدة أسماء لا تسعفني الذاكرة إلا بالقليل منهم، على سبيل المثال، آل أبوشامة..الحاج المبارك أبوشامة وعبد المحمود أبوشامة وعباس أبوشامة وحمزة المبارك أبوشامة وعبدالمنعم خوجلي وغيرهم كُثر.. فهنيئاً يا أهل السروراب بهذه الشهادة. وقد علمت من أبنائه مؤخراً أن آخر وصاياه كانت إذا أردتم خيراً لهذا البلد وأهله فلتصلحوا التعليم وأغرسوا قيّم التعليم في أبنائكم فالعلم نور والجهل ظلام.
شخص عظيم مثل الشيخ جمال كان لا بد أن تكون وراءه امرأة عظيمة مثله. فقد كانت زوجته الفضلى السيدة سعيدة سنداً حقيقياً له في استقبال ضيوفه ابتداءً من النجمة وحتى آخر الليل وفى تدبير شئونه الخاصة وشئون المنزل وتربية الأبناء وبانسجامها مع كل الظروف والأحوال ومجاراتها لمختلف أصناف البشر في كل المناطق التي عمل فيها.. حقاً فقد كانت زوجته هي المادة السحرية التي صنعت القواسم المشتركة فأحبها الناس جميعاً أينما حلت حتى أحبها الله وأخذها إلى جواره قبله فلهما الرحمة والمغفرة. والعزاء فيما تركه الاثنان من الأعمال الجليلة الخالصة لوجه لله دون منٍ أو رياء. أما العزاء الأكبر فقد تركا الذرية الصالحة من البنات والأولاد وهم أكثر كفاءة وقدوةً وإيماناً لتكملة مشوار والديهما في الطيبة والعمل الصالح والدعوة بالتي هي أحسن.
ما دونته الآن ليست هي سيرة ذاتية كاملة عن الشيخ جمال إنما هي محاولة لتجميع لمحات عن شخصيته وحياته نزلتها من الذاكرة ولقد قصدت ألا أطيل عليكم لأن العظماء من الرجال لا تفتأ أعمالهم تطوف بين الناس بالخير وتسعى بالثناء ما دام في الحي زامر.. فعطاء الرجل لوطنه ولشعبه ولأهله ولدينه لغزير لا تستوعبه ذاكرتي ولا هذه السطور. وخير ما أختتم به هذه السيرة العطرة.. اللهم أجعله في بطن القبر مطمئناً، وعند قيام الأشهاد آمناً، وبجود رضوانك واثقاً، وإلى أعلى درجاتك سابقاً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
شوقى محى الدين أبوالريش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.