سألني أستاذ عثمان القادم من بورتسودان "للتدريس" بمدرسة ود ادم الابتدائية في غرب الجزيرة 1980م ،وقد كنت بالصف الرابع، "الساعة كم" ؟، وهو لا ينتظر إجابة بقدر ما يشير الى ساعتي الجديدة " الجوفيال" ، أول هدية أتلقاها من "شقيقي جمال " ..أما أستاذ عثمان فقد كان يجسد "قومية المُدرس" منذ زمان طويل ، وقد لحق جيلنا بجزء من تلك الفترة الذهبية . في العام التالي أرتحلتُ مع الأسرة الى العزازي ،منطقة النشأة الأولى لجدنا مُحكًر ، وفي ذات ليلة باردة سمعتُ هتافا داويا خرجت مسرعا لأجد " جمال" غارقا في الفرح ، حملني على كتفه وهو يهتف ،ضمن مجموعة، بالطول بالعرض المريخ يهز الأرض ، كان المريخ منتصرا على نده الهلال ، ومنذ تلك اللحظة ازداد حبنا للمريخ طالما تنفسه جمال حبا بلاحدود. في العزازي التي أحبها جمال وأحبته كان يلعب كرة القدم في نادي الاتحاد ، ثم تولى إدارته ، وظل رئيسا له لأكثر من 20 عاما، وهي أعوام تجسد روح الوفاق حول شخصيته . من خلال عمله في سوق العزازي أقام شبكة علاقات ممتدة مع الذين كانت لهم منافع في "سوق السبت والثلاثاء" ، وأمتدت هذه العلاقات بمشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم وفي سبيل ذلك يبذل الوقت والمال .. ذات مرة قلت له هون على نفسك قليلا ، ويرد ضاحكا "هازول" مشاركة الناس دي منبع سعادتنا وسر فرحنا ،وهذه إجابة تشبه شخصه تمام ، وهو أوفرنا التصاقا بالناس ونحن كنا اخوة نشأنا في حب كبير "الطيب ومحمد الدكمو ،وعبد الكريم وأبراهيم والصديق وشيخ إدريس" وهو في الترتيب يسبق الشيخ ادريس الذي يكبرني بنحو 6 أعوام ، والعزيزتين فاطمة و أمنة" غير أن جمال أكرمنا وأشهمنا وأصدقنا وأوفرنا عطاءا وأجملنا "خلقا وأخلاقا" أو اليس هو "جمال" . أخذت علاقتي به بعدا تجاوز كونه شقيقي لتصبح علاقة صداقة مشهودة ،وكنت أتصل عليه أن كان بي "فرح أو كرب" ، فيأتي صوته عذبا "هازول كيف حالك والأولاد" ويحدثني عن أهمية " لملمة أطرافي من أجل الاستقرار في السودان .. وأصبحت كلما أمر بضيق أو انزعاج أتصل على "جمال محكر" وعنده أجد فرحا غير محدود ، يحدثني عن الكرة والسياسة وأخبار الناس الجميلة ، أقول له "الاجازة قربت طلباتك شنو" يرد ضاحكا تعالوا لينا انتوا بس"، فهو ليس من أصحاب "المطالب" بل هو من أهل "العطاء" . لم يفوت حرفا كتبته في صحيفة الا وأطلع عليه ، بل إشتراكاته في الصحف كانت تتوقف على التي أكتب فيها . مرض " جمال" فشددت الرحال من الرياض الى الخرطوم حتى أكون بجواره في مرضه وهو الذي يقف مع كل الناس في "أفراحهم وأحزانهم" . يوم الجمعة 18 رمضان الماضي ، الساعة العاشرة والنصف صباحا أسلم " جمال أخوي " الروح لباريها بهدوء ، لحد ان "الدم" الذي تبرع به له الأبناء لم يأخذ منه قطرة ، وكأني به يوصي به لأخرين .. هكذا يلتحق بالأشقاء " الطيب ومحمد وفاطمة" ،و بموته ضجت ساحة المستشفى ، حزنا عميقا . العزازي ، خرجت على بكرة أبيها تستقبل جنازة " جمال"، وأصوات البكاء لا تسطيع أن تميز بينها ، فالكل يبكي من ظل يحافظ على ابتسامته الوضيئة حتى أخر رمق من حياته .. أمتلأت الساحة بالمعزين ، وقد كان المسير من منزل الراحل الى مقبرة " الشيخ أحمد" بحي منير الغربي ، أمرا صعبا ، حيث حشود أمتدت على مد البصر ، وهي ذات الحشود التي أدت صلاة الميت على جثمانه ، ومن عظم كثرتها تحسب أن هذه الصلاة ، صلاة عيد في مدينة كبيرة لولا أن الوقت عصر والدنيا رمضان، والناس "حزانى"!. كان أمرا لافتا أن تلحظ أشخاص "لانعرفهم" يتبادلون التعازي . و من المواقف التي تجسد "هول المصيبة" لحظة تلقي الاستاذ محمد الحسن بابكر اتصالا مساء يوم الوفاة ، فحينما سمعته يقول لمحدثه "توفى خالنا جمال محكر" ، أنتفض قلبي ،وشعرت بأنني لا أملك أطرافا.. وبعد لحظات أدركت أن "جمال " فاكهة مجالس الريف والبنادر قد" مات" .. لاحول ولاقوة الا بالله ..ثم أستدعيت تفاصيل الأمر بأنه حقا لقد رحل ودفن في مقابر الشيخ أحمد "عصرا" . نعم رحل " جمال أخوي " يا له من أمر مفجع ،نعم ترجل مبكرا 52 عاما ، قبل أن نكمل كثير من حكاياتنا وأحلامنا . نسأل الله تعالى أن يدخلك جنات الفردوس العلا مع الصدقيين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ويلهمنا الصبر الجميل. "انا لله وانا اليه راجعون". مصطفى محكر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.