اختطّ وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر نهجاً أمريكياً معروفاً حيال تعامل واشنطن في الأزمات الدولية، فالرجل الذي اشتُهِر بكونه أشهر مُنظِّري السياسة الخارجية كان قد أقّر قاعدة ذهبية لبلاده تقضي بما يطلق عليه (عملية تسخين) للأزمة حتى يمكن التعامل معها وهي كما هو واضح يعني انه إذا أعيت واشنطن كافة الحِيل حيال أزمة ما، فما عليها سوى قدح زنادها وإشعالها لكي تبدو ساخنة ومن ثم تشرع في التدخل فيها، وقد ظل كيسنجر يردد هذا المبدأ حيال أزمة الشرق الأوسط مطلع سبعينات القرن المنصرم، وبالفعل لم تتدخل واشنطن بجدية وقتها إلا حين اشتعلت الحرب التي عُرِفت بحرب أكتوبر 1973م بين العرب وإسرائيل. الآن يبدو أن واشنطن تستدعي ذات هذا المبدأ في تعاملها في الشأن السوداني الجنوبي، فقد أعيتها الحيل، وطفقت تُقدم المقترحات تلو المقترحات وهي تعلم - وهذه نقطة مهمة- أن مقترحاتها ذات طابع استفزازي وليست فقط غير صالحة للتداول، حتى تصل الى نقطة تشعل فيها الأمور بحيث يقع المحظور ليتسنى لها التدخل في أزمة (وهي ساخنة). أن مدخل واشنطن الثابت الآن والماثل للعيان لتسخين الأوضاع بين السودان وجمهورية جنوب السودان ابتدرته الآن وتُدير دفته سوزان رايس مندوبة واشنطن في مجلس الأمن، وهي أدرى أكثر المسئولين الأمريكيين مقتاً وكراهيةً للحكومة السودانية؛ فالاتهامات التي جرى إطلاقها مطلع هذا الأسبوع بقيام الجيش السوداني بقصف معسكر لاجئين بجمهورية الجنوب (لاحظ عدم معقولية الاتهامات) هو بداية على طريق تسخين الجبهة السودانية الجنوبية وإيصالها الى أقصى نقطة من السخونة، ذلك أن رايس على يقين بأن جمهورية جنوب السودان تدعم متمردين سودانيين ضد الحكومة السودانية. وهي على يقين لأن الأمر من الوضوح بحيث يكون من العبث المغالطة بشأنها وعلى ذلك فلا بأس من توجيه ذات الاتهام -بذات الحدة- الى الجانب السوداني حتى يكون الاتهام متبادلاً بين الطرفين ويتأزم الوضع ويتساوى الطرفين في الخطأ لَتنفُذ واشنطن من خلال الفتحة التي تستحدثها وتضغط بقوة على الطرف الذي تود الضغط عليه. ان مجمل ما بدا حتى الآن، أن السياسة تتراجع بفعل الضغط الأمريكي، والحوار يصبح ترفاً سياسياً ليفسح المجال للبندقية إذ أن مؤدى قيام السودان بقصف معسكرات لاجئين داخل دولة الجنوب - بزعم واشنطن- هو أن تقوم دولة الجنوب هي الأخرى بفعل ذات الشيء داخل السودان وهكذا يبدو الأمر تبادلاً لأفعال وردود أفعال يستدعي تدخلاً دولياً، ومجلس الأمن في هذه الحالة جاهز ومُعد مسبقاً للمهمة ورايس لم تقصِّر في هذا الصدد فهي أعدّت المسرح هناك جيداً. غير أن ما لم تنتبه إليه واشنطن وهي مأخوذة بعناصر الخطة هو أن دولة الجنوب أشد اشتعالاً من السودان بحيث يمكن القول أن أي احتكاك ذي طابع عسكري بين الطرفين، الرابح فيه الأوحد هو العناصر المتمردة في دولة جنوب السودان، بينما من المستحيل -حتى بأسوأ المقاييس السياسية- أن ينفرط عقد الجبهة الداخلية السودانية في ظل حرب يشنّها القادة الجدد لدولة ما كانت لتصبح دولة لولا الأريحية السياسية السودانية. إن واشنطن كعادتها دائماً في إغفال الحسابات وتقدير الأمور بدقة تدفع الأمور الى حافة هاوية ليس من الحكمة أن تندفع إليها، وهي بهذه المثابة تعرض جنوب السودان لامتحان من الصعب أن يتمكن من الصمود في اجتيازه بسلام!