فرقت في معظم كتاباتي بين مفهومين في بناء الدولة الحديثة، الأول هو مفهوم السلطة والثاني مفهوم الدولة، وعلى الرغم من ذلك فلم أجد الكثيرين يهتمون بمثل هذه التفريق على الرغم من أهميته خاصة في ظروف العالم العربي الحالية التي يشهد فيها حراكا سياسيا كبيرا، وعلى الرغم من ذلك فلم تتبلور حتى الآن نظرية سليمة في كيفية بناء الدولة، ذلك أن الفكر المسيطر في هذه المنطقة إما هو مأخوذ من حقبة السيطرة الاستعمارية، وإما مأخوذ من حقبة الفكر الأيديولوجي التي أسهمت في دعمها الأنظمة العسكرية التي انتشرت في العالم العربي خلال مرحلة الحرب الباردة، خلال مرحلة السيطرة الاستعمارية ظل الناس يعتقدون أن كل ما يحتاجونه هو حكومة وطنية تسيطر على الأمور على النحو نفسه الذي درج عليه الاستعماريون، وبالتالي لم يتجه التفكير نحو بناء المؤسسات، بل اتجه مباشرة نحو تكوين الحكومات التي بدت في نظر الكثيرين مجرد سلطات لتأكيد النفوذ القبلي أو الطائفي دون اهتمام بالأهداف الحقيقية لوجود حكومة في نظام مؤسسي، وأما في مرحلة الفكر الأيديولوجي فقد انتشرت النظريات اليسارية بصفة عامة وهي التي قدمت وعودا لأفراد الشعب تتركز كلها حول السيطرة على أموال الأغنياء وتوزيعها على أفراد الشعب دون اهتمام بالدور الذي يلعبه الأغنياء في تطوير الحياة الاقتصادية من خلال نظام مؤسسي. ولا يبدو أن هذا الواقع آخذ في التغير على الرغم من الثورات التي بدأت تنتشر في العالم العربي، إذ الواضح أن معظم القوى المتصارعة في الوقت الحاضر هي قوى أيديولوجية أو طائفية أو عقدية كل همها أن تحقق النفوذ دون إدراك لطبيعة بناء الدولة الحديثة، ولا شك أن وجود موقف مسبق من الأنظمة السياسية السائدة في العالم الغربي يلعب دورا مهما في عدم الالتفات لطبيعة النظم السائدة في ذلك العالم بل وتصنيفها في إطار مفهومات تقليدية لا تفيد كثيرا في محاولات تطوير العالم العربي، وهنا أود أن أتوقف عند بعض التجارب الشخصية التي غيرت أسلوب التفكير عند كثير من الذين أتيحت لهم فرصة الهجرة أو العيش في العالم الغربي، وأذكر خلال فترة عيشي في مدينة مانشستر البريطانية أني ذهبت إلى زيارة أحد الأصدقاء كان قد اشترى منزلا في تلك المدينة يسكن فيه، وكان حديثنا يدور حول ذلك المنزل، وفجأة قال لي الصديق إن شراء المنزل غير تفكيره بشكل كامل عن العالم الغربي، فقلت له ولم؟ فقال لأنه اشترى المنزل دون أن يملك فلسا واحدا من ثمنه، إذ اعتمد على نظام الرهن العقاري، ولم يجد صعوبة في شراء المنزل لأن المصرف كان يضمن القرض بالمنزل نفسه، ولم يكن ذلك المهم في نظره بل كان المهم هو إجابته على سؤال مهم، وهو من يملك المال الذي اشترى به المنزل، وكانت الإجابة بسيطة وهي أن الذي يمتلك المال هو الثري أو الرأسمالي الذي ظل الفكر اليساري يشوه صورته في العالم العربي، ويظهره وكأنه أحد عناصر الشر التي مهمتها استغلال ما عند الفقراء، لكن هذا التصور تلاشى عند صديقي الذي أدرك أن امتلاك الأغنياء للمال لا يسبب ضررا للفقراء طالما أن أموال الأغنياء محفوظة في البنوك ويمكن أن يستفيد منها الفقراء، وهذا الوضع قد يختلف في إطار عالمنا العربي، حيث الأثرياء لا يهتمون بوضع أموالهم في المصارف الوطنية بل يرحلونها إلى المصارف الأجنبية حيث تدخل في الدورات الاقتصادية لدول أخرى وبالتالي ينطبق عليها كل ما يقوله أصحاب الفكر اليساري عن الأغنياء المستغلين في دول مثل دول العالم العربي. وكانت لدي في الواقع تجربة أخرى مع بعض المهاجرين الذين وصلوا إلى بريطانيا في مرحلة الثمانينيات وأدهشهم نظام الضمان الاجتماعي الذي يوفر الحياة الكريمة لكل مواطن قد يواجه ظروفا صعبة، وهو ليس نظاما استغلاليا بل هو نظام يقوم على العدالة يسهم فيه كل قادر عن طريق نظام الضرائب ويأخذ منه كل من هو في حالة احتياج حتى يستقيم أمره، وهذا النظام غير مطبق في معظم الدول العربية على الرغم من إصرار الدولة على فرض ضرائب باهظة على العاملين. لكن معظم هذه النظم الحديثة لا تنجح إلا في إطار نظام الدولة، والسؤال المهم هو ما المقصود بنظام الدولة ؟ والإجابة ببساطة هي أنه النظام الذي ينظر إلى الدولة على أنها شراكة بين كل المواطنين، وهذه الشراكة تستدعي المحافظة على كل الأسس التي يقوم عليها النظام، وبالتالي فإن ما يهتم به الذين يتصدون للعمل في المجال العام هو أن يعملوا من خلال نظام مؤسسي يوصل إلى الغايات التي يستهدفها نظام الدولة، فإذا نظرنا إلى كثير من الدول الغربية وجدنا أن نظمها تعتمد على مؤسسات لا تدخل فيها المفهومات الطائفية أو العرقية، وبالتالي فإن معظم الناس حين يتوجهون لاختيار من يمثلهم في المؤسسات الديموقراطية لا يركزون على الأشخاص بل يركزون على المؤسسة التي يعمل من خلالها الأشخاص لأنهم يعلمون أن المؤسسة هي الضامنة لكفاءة العمل، وبالتالي ليس مهما أن يدخل المتنافسون في الديموقراطيات الغربية في منافسات يغلب عليها الطابع الشخصي لأن المنافسة تكون بين الأحزاب التي لها نظمها الخاصة في ضبط سير عملها، وفي إطار هذا الواقع نلاحظ أن معظم الديموقراطيات الغربية لا تحتاج إلى نظم حزبية معقدة أساسها طائفي أو أيديولوجي بل جل ما يحتاجه النظام السياسي حزبين أحدهما في الحكومة والآخر في المعارضة، وقد يكون هناك حزب ثالث من أجل إقامة التوازن بين هذين الحزبين. أما الأساس الذي يتمحور حوله النظام السياسي في الدولة الحديثة فيقوم على ثلاثة مكونات، وهي السلطة التشريعية التي توكل لها مهمة وضع الأسس التشريعية التي يقوم عليها المجتمع، والسلطة القانونية وهي التي تملك سلطة تنفيذ القوانين والتشريعات دون تدخل من أحد، والسلطة التنفيذية التي هي الحكومة التي تحكمها ضوابط السلطتين التشريعية والقانونية؟ ونرى في إطار هذا الوضع لا يحتاج المجتمع إلى سلطات إضافية تقوم على أسس عرقية أو طائفية أو عقدية، ولا يعني ذلك أن المجتمعات الحديثة لا ترتكن إلى الأسس الأخلاقية التي يفرزها النظام الاجتماعي، لكن هذه الأسس تظل هي القاعدة التي يؤسس عليها النظام الأخلاقي، دون أن تتحول هذه القاعدة إلى سلطة دكتاتورية في حد ذاتها تحرم الآخرين من حرية التعبير في إطار نظام ديموقراطي تعددي، إذ يلاحظ أن أصحاب الأيديولوجيات والتوجهات العقدية يتجاهلون حقيقة أن إصرارهم على التعبير عن وجهة نظر واحدة قد يحرم الآخرين من التعبير عن وجهات نظرهم في إطار النظام السياسي المقبول لدى سائر أفراد الشعب. والمقصود بذلك هو أن النظام السياسي في الدولة الحديثة لا يلغي الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع ولكن هذه الأسس تظل هي الأرضية التي يقوم عليها النظام السياسي، ولا تكون وسيلة لتجريد النظام السياسي من الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة. لكننا إذا نظرنا في الوقت الحاضر إلى ما يجري في العالم العربي وجدنا أن معظم القوى المتصارعة أو الطامحة تحاول أن تؤسس لنفسها قاعدة سياسية تستأثر بها على السلطة دون أن يكون للآخرين حق المشاركة، وذلك ما يجعل هذه القوى تبتعد حقا عن إقامة نظام الدولة الحديثة، وتسهم بالتالي في تعطيل مسيرة العالم العربي نحو إقامة هذه الدولة. نقلا عن القدس العربي 15/3/2012