أثارنى تعبير "وعي النكبة" في هذه الظروف العربية المنكوبة، وأقدر بالطبع، كيف يعاني الشعب الفلسطيني في هذه الذكرى مرارة ألا يجد مخرجاً وسط هذه الظلمات! فمن يصدق أنه في "الربيع العربي" يختفي الأمل في فتح الطاقات الجديدة لهذا الشعب؟ ومن يصدق أن تكون فى يدنا "أغلبية برلمانية" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا نتقدم خطوة فى دفع القضية ضد عتاة المقاومين لها بسبب المعارك البرلمانية على أرضنا نحن؟ ومن يصدق أيضاً أن تقترب إسرائيل من الهند والصين ومن الاشتراكيين و"المحافظين" في أوروبا بمختلف تعبيراتهم! ومثل ذلك، كيف نصدق أن يكون المال العالمي هو لعبة إسرائيل الدولية، والعرب من أكبر القوى المالية في العالم؟ تلك هي نماذج الأسئلة التي تقودنا للتساؤل الأكبرعن أبعاد الوعي العربي بالنكية، وكيف يتصل ذلك، بمعالجاتنا الفكرية والسياسية، بل والانتخابية لوضع إسرائيل في أفريقيا، وكيف تعبر بحوث الشباب قبل الشيوخ الآن عن هذا الوعي كما سنرى. ولابد أن أشهد هنا أن الأيام الأولى للثورة المصرية في يناير/ فبراير 2011 قد ربطت مسألة الكرامة بضعف مواجهات مصر للعدوان على مصالحها في أفريقيا، وارتبط الأمر بوضوح بمسائل المياه والسودان، ونشاط إسرائيل في دول حوض النيل، وكاد ذلك يفوق التعبير عن الموقف تجاه إسرائيل نفسها في فلسطين. وهنا رأيت أن هذا الشعور لايعني التقليل من مكانة فلسطين في وعي المصريين وثورتهم، ولكنه في تقديري وعي أكبر بمخاطر إسرائيل إقليمياً ودولياً، وهذا هو الجدير بالنظر بعمق مناسب فعلاً . لذلك فإنني منذ البداية أقول إن إسرائيل ومنذ وقت مبكر بل ومازالت مشكلة دولية بالنسبة للعرب ككل، وليست هماً قطرياً فقط. ولذلك وصفتها مؤتمرات شعبية أفريقية آسيوية، منذ باندونج والقاهرة 1958 والدار البيضاء 1961 وأكرا 58/1961 ، أولاً فى دائرة الاستعمار الجديد، ورأس جسر للاستعمار فى تعبيرات واضحة، ولم يصدر ما يشير مبكراً إلى مجرد "النشاط الإسرائيلي" فى أفريقيا، أو التسلل إلى المياه وحوض النيل جنوب مصر! المشكلة التالية، أصبحت في تطور رؤية هذا الاستعمار والإمبريالية التي تتصف بهما إسرائيل، وكيف يفرض الوعي بالعولمة، تصورات جديدة لا تبقينا في الدائرة التقليدية التي تثير السخرية منا، فإذا أصبحت الامبريالية والاستعمار هما هذا التطور الهائل فى أساليب المؤسسات المالية وهيمنتها، وإذا أصبح التوسع مرهوناً بسياسات متشابكة تجعل الصين والهند وتركيا وجنوب أفريقيا وماليزيا هم المتصدرين الجدد-ومعاً- للمصالح العربية أو قل تحديداً المصرية - مباشرة في حوض النيل، فلابد إذن من تأمل جديد للساحة الدولية، مثل التأمل الواجب للساحة الفلسطينية. وعند أية مراجعة لحالة الفكر العربي، ومدى وعيه الحالي بالنكبة، فإن النظر سيتجه مباشرة للتطورات السياسية الجارية وخاصة الحالة الانتخابية في مصر. دعوني أفحص الوجه الآخر للعملة، علّني أرى ذلك البصيص الذي يبدو هناك ...في منطقة من النفق، ولا داعي أن نتوقعه يائسين فى آخر النفق فقط كما جرى عرف المحللين العرب! أجد أن ثمة واجباً على مثلي أن يلفت الانتباه لجهود شبابية مستمرة في هذه الفترة حول "الحالة الإسرائيلية " في أفريقيا، وأن ذلك يأتي ضمن وعي متطور بالنكبة السياسية والاقتصادية للحضور العربي العالمي، الذي لايرى إلا أوروبا المتغافلة عن قيمة هذا الحضور ضمن استغلال غربي عام للحالة العربية. الجهد الشبابي الجديد في كشف العلاقات الإسرائيلية - الأفريقية، يكاد يربط نفسه ب"الحالة الثورية" في العالم العربي، رغم أنه جهد أكاديمي قد بدأ إعداده في سنوات سابقة. ومن الملفت هنا أن ما نسميه ب"الحالة الثورية"مازال مرتبطاً بحالة إحباط مؤسفة، انعكست على أي حال- بالنسبة لموضوعنا- فيما يشبه حالة "الرهاب" أو الخوف المبالغ فيه أحياناً، من "النفوذ الإسرائيلي" في أفريقيا. يكاد تقديم كتاب مروى ممدوح سالم" عن إسرائيل وأفريقيا (2011) أن يبعث بهذه الرسالة مباشرة، ويكاد يتخذ قيمته عندي أحياناً من وصفها لحالة الصدمة التي أصابتها من حجم العدوان على غزة فى ديسمبر 2008، وجعلتها تحول موضوع رسالتها للماجستير، وهي في جامعة لندن العتيدة من حالة جنوب السودان إلى بحث حالة السياسة الإسرائيلية فى أفريقيا. وفي هذه الأجواء الدولية نفسها حول نكبة الشعب الفلسطيني، تقبل الجامعة العتيدة بهذا الإجراء، وتترك الباحثة الشابة تفجر طوال البحث وإنْ بمنطق هادئ وتقليدي أحياناً... ما كنا نسميه "تغلغل" إسرائيل في أفريقيا، عبر إعلام ومساعدات، وتسلل إلى الحكومات، وتوافق الاستراتيجية بعيدة المدى مع الممارسات المباشرة، من عالم الماس الكونغولي إلى مياه النيل، بل وترصد دائماً قضية البحر الأحمر التي نتناساها أحياناً. باحثة شابة أخرى تدخل عرين الأسد، لتنتقل من محاولة كشف أبعاد الاستراتيجية الإسرائيلية من خلال سياساتها في القارة، كما حاول البحث السابق إلى كشف المؤسسة الفكرية التي تقف وراء هذه الاستراتيجيات بالفكر الصهيوني القديم والجديد. وجاء كتاب "أفريقيا في الفكر السياسي الصهيوني" للباحثة هبة البشبيشي" معبراً عن اختراق جديد للمراجع الصهيونية باللغة العبرية ومؤسساتها. ولأننا نعرف صعوبات التعامل في مصر والعالم العربي مع المؤسسات الصهيونية إلا عبر وسائل إلتفاف صعبة، فإننا مع كتاب صادر عام 2011 أيضا أمام إنتصار على الحاجز النفسي مع "العدو الصهيوني" الذي ذكرتنا انتفاضات العرب به مؤخراً. والباحثة هنا تطرح سؤالاً خطيراً على النخبة العربية حول مدى عمق اعتماد الاستراتيجيات السياسية على المؤسسة الفكرية، وهو سؤال خاص بالصراع بين الالتزام "الأيديولوجي" - إن صح تسمية الصهيونية أيديولوجية - وبين الاعتبارات العملية أو البراجماتية للممارسات السياسية. وتمضى الأستاذة هبة فى تناول العلاقة الجدلية بين الفكر الصهيوني والقضايا التى تهم إسرائيل أو تتعرض لها فى القارة، فترد آفاقاً متميزة وأحياناً حساسة حول حقوق الإنسان والأقليات، بل ووضع المرأة، والصراعات الداخلية، وهي قضايا مهمة تكشف عن رغبة الفكر الصهيوني في تجذير حضوره في القارة، بينما لانجد أن الفكر العربي نفسه قد طرق الكثير منها بسبب تركيزه حتى الآن فقط على القضايا السياسية للعلاقات العربية الأفريقية. المصدر: الاتحاد 22/5/2012م