أصدر مجلس عمداء جامعة الخرطوم بياناً أمس حول موقف الجامعة من قضية تقرير المصير ،و فيما يلي تنشر (الأخبار) نصه : لم ينشأ السُودانُ وطنا واحدا محض صدفة هكذا، بل عبر تجربة طويلة من التفاعل و التعايش و التكوين. عاش السُودانيون مواطنين تحت راية وطن واحد إنتسبوا له، و تشرّفوا بالإنتماء إليه. و ما انتاب هذا الوطن من أزمات و صراعات أهلية و وقائع حيف و عسف و تظلُّمات لم يكن حائلا دون استمساك السُودانيين بسودانيتهم بأفضل ما يستطيعون. و هاهي البلاد تُقبل على استفتاء تقرير مصير جنوب السُودان، الذي هو، في واقع الأمر، استفتاء على تقرير مصير السُودان كلّه. حينئذٍ سيقترع مواطنو السُودان من الجنوبيين في مطلع العام المُقبل (2011) في استفتاء تقرير المصير ليقرروا إن كان السودان سيبقى موحداً كما عرفناه منذ حوالي قرنين من الزمان أم أنّه سينقسم إلى كياني دولة في الشمال و الجنوب. يجيء إستفتاء تقرير المصير في سياق الوفاء باستحقاقات الإتفاق الشامل للسلام (نايفاشا 2005)، و هُو إتّفاقٌ وطنيٌ مهم و جدير بالتطبيق كاملا، إلا أنّ تقسيم الوطن سيستصحب معه متاعب لا حصر لها. فهو سيفتح الباب لاحتمالات عنف واسع و مستمر، و لإنقسامات جديدة في الشمال و الجنوب، بلا استثناء. هذا فضلا عن أنّه سيضع بين أيدينا قائمة من القضايا المشتركة التي تنتظر الحسم، ما من شأنه أن يفتح الباب لنزاعات غير ضرورية عالية التكلفة. كما أن من شأن تقسيم السُودان أن يجلب معه متاعب إقليمية و تدخلات دولية غير مأمونة العواقب. إنّ السُودان الموحّد، وحدة طوعية منصفة و بنّاءة، يمثّل فرصة حقيقية من واقع كونه بلدا كبيرا غنيّا بالموارد. و بلدٌ بخصائص السُودان، سعةً و تعدّدا و خبرات و تجارب و نموذجا في التعايش و موارد اقتصادية و بشرية، في وُسعه أن يلعب دوراً أشدّ تأثيراً في محيطيه الإقليمي والدولي. إنّنا نعيش في زمان تتكامل فيه الدول وتتحالف و تتفاعل و تتعاون على معالجة مشاكلها، و للتصدّى لتحدّياتها الكُبرى، و للعمل على بناء مستقبلات أفضل لشعوبها بعيدا عن مخاطر الإنقسامات المُفضية إلى هدر موارد الأوطان و طاقاتها في النزاعات و الصراعات و حُروب الإستنزاف. صحيحٌ أنّ تقسيم السُودان، إن تم،ّ فسيجيء كجزء من استحقاقات إتّفاق نايفاشا، و لكنّنا عندئذ، سنكون كمن يسير في اتّجاه ضد التاريخ، وضد مصالحنا الوطنية، وضد رغبة شعبنا الحقيقية الذي برهن على مقدرته في التعايش السلمي والتواصل عبر القُرون. إنّنا نقدّر أسباباً قوية دفعت الإخوة في الحركة الشعبية لتبنّي إدراج حق تقرير المصير في بروتوكول ميشاكوس، و قيامه في موعده المحدد والالتزام بنتيجته المتوقعة. غير أنّ تنفيذ الإتفاق الشامل للسلام الذي تم الاتفاق عليه بين حُكومة السُودان و الحركة الشعبية (2005)، رغم بعض العراقيل طيلة السنوات الخمس الماضية، ليدُل على أن المعادلة السياسية المرضية للشمال والجنوب ممكنة بل وقابلة للتحسين والتطوير، ويكفي أنها أوقفت الحرب التي استمرت لأكثر من عشرين عاما. الرهان على استدامة الوُحدة: لا خلاف، بالتأكيد، حول الاختلافات الكثيرة بين أهل الجنوب والشمال في الدين والعرق والثقافة والتوجُّهات السياسية إذ السُودان يُرسي دعائم وحدته على قاعدة من تنوّعات عديدة؛ و لا خلاف حول أنّ الإرث الاستعماري الذي قفل الجنوب في وجه أهل الشمال وقفل الشمال في وجه أهل الجنوب أبقى على الجنوب، ضمن أسباب أُخرى، متخلفاً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ و لقد أخفقت الحكومات الوطنية في عُهودها المُختلفة في معالجة جذور المشكلة الجنوبية. كلُّ ذلك صحيح، إلا أنّ مواطني السُودان، جنوبا و شمالا، تعايشوا جنباً إلى جنب في أريحية وجوار حسن في سائر مدن الشمال والجنوب في السكن وفي مجالات التجارة والصناعة والخدمات دون نزاعات عرقية أو دينية؛ وتجاورت الكنائس والمساجد دون اعتداءات أو تشاحن. صحيحٌ أن التعايش الاجتماعي لم يبلغ مداه المطلوب متأثراً بنظرات عرقية تاريخية ولكنه يسير على الدوام في خط متطور إلى الأحسن والأفضل. ولا تقتصر النظرات العرقية الاستعلائية على بعض الشماليين تجاه الجنوبيين، ولكنها قائمة بين المجموعات السُكانية في شمال السُودان فيما بينها و بين المجموعات السُكانية في جنوب السُودان فيما بينها أيضا. و إنّنا لنتميّز، مقارنة بغيرنا من أشقائنا في غير قليل من البلاد الأفريقية والعربية بحُسن التعايش والتواصل والتسامح و التداخل و التفاعل الإيجابي البنّاء بين الأعراق. و يجدُر أن نُلاحظ أنّ شكوى المواطنين الجنوبيين، على مر الوقت، تتمحوّر حول القرارات والسياسات الحكومية وليس بسبب سوء العلاقات الاجتماعية بين السُودانيين. لحظاتٌ مُشرقة في تاريخ الوطن: لقد أدى الحكم المركزي القابض وفترات الحكم العسكري المتطاولة والغفلة السياسية في قراءة مطالب الجنوبيين منذ فجر الاستقلال إلى أخطاء فادحة في التعامل مع القضية الجنوبية، التي تمثّل إحدى تجليّات مشكلة الوطن الكُبرى، من قبل النخب الحاكمة من الشماليين و الجنوبيين. لقد انتفض السُودانيون في الشمال في أكتوبر 1964 ضد حكم الرئيس عبود بسبب سياسة المعالجة العسكرية لمشكلة الجنوب وكان أول مهام الحكومة الانتقالية الدعوة إلى مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب سياسياً. وانتفضوا مرة أخرى ضد حكم الرئيس نميري بسبب تداعيات الحرب الأهلية في الجنوب مرة ثانية بعد اتفاقية أديس أبابا (1972)، وكان أول نداءات المجلس العسكري الانتقالي بعد الانتفاضة هو دعوة الحركة الشعبية بالانضمام إلى قوى الانتفاضة والمشاركة في الحكومة والتفاوض حول تحقيق السلام في البلاد. وكان الإتفاق الشامل للسلام أكثر محاولات السلام جدية وتشخيصاً لجوانب المشكلة المختلفة، ورغم أنها جاءت ثنائية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ومقسّمة السلطة بينهما إلا أن بقية القوى السياسية قبلت بها، بشكل أو آخر و دون تردد. و لقد حقق إتّفاق السلام، في الواقع مكاسب كبيرة للجنوب و الشمال ليس أقلها حقنها الدماء، و الإفضاء إلى سلام مستدام بعد حرب أهلية ضروس أكلت الأخضر واليابس. إنحياز إلى وُحدة طوعية مُنصفة و بنّاءة: بإزاء كلّ ذلك، و إنطلاقا من كونها مؤسّسة علمية جامعية قوميّة تتمتّع بتاريخ وطني ناصع؛ و بإرثها في الإنخراط الإيجابي الفعّال في قضايا الوطن، و بمسؤوليتها تجاه حاضر الوطن و مستقبله، فإنّ جامعة الخُرطوم تستنهض الضمير الوطني الحي للإنحياز إلى خيار وُحدة طوعية مُنصفة و بنّاءة، في مقابل احتمالات التقسيم و التشرذم و الإنكفاء. و يجب أن تقوم الوُحدة الطوعية المنصفّة و البنّاءة على الأُسس التالية: - المواطنة. - تشجيع التدامج القومي و بناء الأمّة. - إرساء قواعد الحُكم الراشد، و العدالة و حقوق الإنسان. - الشراكة العادلة في السُلطة و الثروة، و بناء نموذج لتنمية عادلة و متوازنة. - إكمال تنفيذ إتّفاق السلام الشامل. - تعزيز قاعدة المصالح المثشتركة بين مواطني و أقاليم الوطن الواحد - تطوير نموذج الحُكم اللامركزي على أوسع نحو فضفاض متّفق عليه - صون حقوق غير المسلمين في مناطق الكثافة السُكانية للمُسلمين، و المسلمين في مناطق الكثافة لغير المُسلمين. إنّ جامعة الخُرطوم، إدارتها و اساتذتها و موظفيها و فنييها و عُمّالها وطلابها، لتشرئب إلى مستقبلٍ يجمع السُودانيين و لا يفرقهم، و يبني لهم أمّة تحترم خصوصياتهم و تعزّز القواسم المشتركة الجامعة بينهم، و يصنع لهم نهضة يغادرون بها مربع التخلّف الذي أفضى بهم إلى حروب لئيمة مستنزفة. وتُعلن الجامعة تبنيها، بعقل مفتوح، لخيار الوُحدة الطوعية المُنصفة و البنّاءة. و ستنظم الجامعة نشاطات عديدة في إطار حملة واسعة لدعم خيار الوُحدة الطوعية تشمل، ضمن نشاطات أُخرى، تنظيم منبر السياسات الثاني حول قضية تقرير المصير و الوُحدة الطوعية المُنصفة و البنّاءة، و نشاطات مع مُختلف القوى الوطنية و الإقليمية و الدولية لتوفير مساندة واسعة لخيار الوُحدة الطوعية. و تدعو جامعة الخرطوم قادة الوطن في الجنوب و الشمال، خاصّة الحركة الشعبية و المؤتمر الوطني و أحزابنا السياسية الوطنية كافة، و نخبنا الوطنية و سائر المواطنين السودانيين و أصدقاء السُودان الإقليميين و على امتداد الساحة الدولية الأوسع، لتدعوهم إلى تعاضد الجُهود لأن نجعل، نتيجة إستفتاء نزيه و شفّاف لتقرير مصير الوطن، فرصّة حقيقية لإستدامة وُحدة الوطن وحدة طوعية مُنصفة وبنّاءة. نقلا عن صحيفة الاخبار السودانية 8/6/2010