يتحدث الكاتب في هذا المقال ليوضح موقف الإسلام من مبدأ الشفافية، ويذكر حادثتين يستشهد بهما على ما يقول، في كلا الحادثتين هناك اعتراف بحق المواطن العادي أن توضح له الحقائق في كل ما يحتمل الشبهات. لكن انقلب الحال مرة أخرى اليوم فأصبح الحديث عن الشفافية مستورداً، والسلوك الرسمي وشبه الرسمي نقيض ذلك. يقول الافندي: «1» جاء في الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصطحب زوجته صفية بنت حيي رضي الله عنها إلى مسكنها ليلاً بعد أن زارته أثناء اعتكافه في المسجد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي»، فقالا: «سبحان الله يا رسول الله!»، فقال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءاً». «2» وفي قصة مشهورة روي أن عمر بن الخطاب قسم بين أهل المدينة حللاً وردته فأصاب كل رجل ثوبا، ثم صعد المنبر وعليه حلة والحلة ثوبان، فقال أيها الناس ألا تسمعون فقال سلمان لا نسمع، فقال عمر ولم يا أبا عبد الله قال لأنك قسمت علينا ثوبا ثوبا وعليك حلة، فقال لا تعجل يا أبا عبد الله ثم نادى يا عبد الله فلم يجب أحد، فقال يا عبد الله بن عمر فقال لبيك يا أمير المؤمنين، قال نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال اللهم نعم، قال سلمان: الآن قل نسمع. «3» في كلا الحادثتين هناك اعتراف بحق المواطن العادي أن توضح له الحقائق في كل ما يحتمل الشبهات. وفي الواقعة النبوية هناك قدر أسمى من الشفافية، لأن هذه مسألة شخصية تخص النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يظهر من النص فإن الأنصاريين ما كان يخطر ببالهما اشتباه في القضية، ولكنه صلى الله عليه وسلم أراد إغلاق كل باب باتباع نهج شفافية كاملة لم تكن مطلوبة منه في ذلك الموقف. «4» في الواقعة العمرية فإن الاشتباه كان قد وقع فعلاً، لأن الحضور ومن تحدث عنهم اعتقدوا أن عمر استأثر دونهم بنصيب أوفر من الموارد العامة، ولهذا لم يكن هناك مفر من التوضيح. ولم يستنكف عمر من أن يقدم هذا التوضيح، وإن كان من حقه أن يعترض على الاشتباه أساساً على أساس مبدأ البراءة الأصلية حتى يثبت عكسها، ولكنه اختار قطع الطريق على التأويلات بتقديم توضيح فوري وكامل يحسم القضية. «5» يمكن أن يقال في الحالين إن القضية موضوع التوضيح نفسها ما كان يجب أن تكون مثار نقاش، لولا المعايير المرتفعة التي وضعها المجتمع الإسلامي لنفسه. فالسلوك الشخصي لزعيم عظيم المكانة، ناهيك عن نبي متبع، ما كان ينبغي أن يكون موضع تساؤل. كذلك فإن استئثار الزعيم والقائد بنصيب زائد من الثروة المشتركة كان هو الحكم لا الاستثناء، كما جاء في البيت المشهور في مدح زعيم القبيلة العربي: لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول فقد كان من حق الزعماء قبل وبعد نموذج الخلافة الراشدة، بل من أبرز مقومات زعامتهم، الاستئثار بالطيبات دون غيرهم. ولكن الإسلام قلب كل هذا. «6» انقلب الحال مرة أخرى اليوم فأصبح الحديث عن الشفافية مستورداً، والسلوك الرسمي وشبه الرسمي نقيض ذلك. السؤال المطروح ليس هو بكم من المال العام يستأثر الحاكم وبطانته ومواليه وندمائه، وإنما كم يتركون لبقية عباد الله على سبيل «المكرمة» والهبة. أما إذا سئلوا عن مؤسساتهم التجارية وشركات أبنائهم وأصدقائهم وأصهارهم فإنهم يعتبرون هذا عدواناً مبيناً وخيانة عظمى يستحق صاحبها أشد النكير. «7» في كثير من الأحيان نرى في هذه المنطقة المسؤول الكبير يُقال أو «ينتحر» ولا تقرأ في الصحف سوى سطرين مقتضبين عن الحدث الجلل. وتصيب «ولي الأمر» ما تسميه المصادر الرسمية «وعكة صحية» وينقل للعلاج في بلاد أجنبية، ولا تفصح هذه المصادر عن العلة ومدى خطورتها وما إذا كان فخامته أو سموه قادراً على تصريف أعباء الحكم، ولا صفة وصلاحية من ينوب عنه في هذا الدور المغتصب أصلاً. «8» في بلادنا أيضاً تدبر بليل المؤامرات ل «توريث» الحكم للابن المدلل للحاكم المهيب، ويتم عملياً تتويجه ولياً للعهد، ولكن الإعلام الرسمي «والحاكم نفسه المعتقد سراً بخلوده» يطلع على العالم بتصريحات بأن مسألة الخلافة تحسم عبر صناديق الاقتراع، علماً بأنه لا يترك لصناديق الاقتراع تقرير أي أمر مهما صغر. «9» التعامل مع الشعب بالخداع والتدليس والكذب الصراح في كثير من الأحيان، هو اعتراف من الحكام بأن سلوكهم معيب ومخجل. فالإنسان لا يخفي ما يفخر به، وإنما ما يخجل منه. وعليه فإن الاجتهاد في قلب وإخفاء الحقائق، هو أوضح اعتراف من أهل الشأن بخطأ وخطيئة ما يأتون. «10» ما يغفل عنه هؤلاء القوم هو أنهم كما قال القرآن عن المنافقين، لا يخادعون إلا أنفسهم. فما يعتقدون أنها أسرار يصونونها عن العوام هي مبذولة في الشوارع وعبر الشائعات لمن شاء. بل إن كثيراً مما يجترحون من أمور شخصية يظنونها سراً دفيناً هي معروفة للقاصي والداني. «11» نحمد الله أيضاً على نعمة الإعلام الغربي الحر نسبياً والطويل اليد، حتى لا نقول الانترنت. ذلك أن الكذابين والمخادعين إياهم لا يكتمون أولياءهم في الغرب حديثاً، فيكلمونهم بصراحة عن خططهم ومؤامراتهم. وهذه بدورها تجد طريقها إلى الإعلام الغربي، لأن الشفافية هناك استحقاق لا مهرب منه، فتصلنا بدورها. أليس من الأفضل إذن اعتماد الشفافية طوعاً لا كرهاً، فيكونون كمن استن بالسنة النبوية في الشفافية بدلاً من أن يفضحوا رغماً عنهم؟