«الآبري»، وفي مرادفة أخرى «الحِلُومر» هو صنعة سودانية حصرية بامتياز، فلم يقع عندي أن هناك شعباً آخر يصنع الآبري أو الحلومر ليشكل مشروبهُ الرئيسي في شهر رمضان، وربما كان الشعب الوحيد الذي يقاسمنا هذه الصناعة- العادة هو شعب النوبة في جنوب مصر، لكونه امتداداً طبيعياً للنوبيين الذين هم سُرَّة السودان وبذرته الأولى، فلا غرابة إذاً إذا أصبح الآبري أو «الحلومر» شراباً وغذاءً للسودانيين تتصاعد «كترابة» دخاخين «عواسته» طوال شهر شعبان استعداداً للشهر الفضيل بعد أن تكون «زريعته» قد «قامت» واستوت وتم تخميرها وتطييبها بكل أنواع البهار القادم من الهند البعيدة. ü سبب هذه المقدمة، أن الآبري «الحلومر» أصبح جزءاً لا يتجزأ من خطابنا السياسي كلما ادلهمت الخطوب ورأينا أو سمعنا قراراً لا يرضينا، فيلجأ ساستنا وصنّاع القرار في حكومتنا إلى اعتلاء المنابر ليقولوا «قرارم دا خلِّي يبلوا ويشربوا مويتو»، أي أننا لن نقبل أو نعترف به أو نتعامل معه، وهي لغة غير مفهومة للآخر غير السوداني، إلا بعد «ترجمة» تجتهد في إبراز خصائص الآبري وزريعته وعواسته وبهاراته وفضائل الشهر الكريم موسم تناوله. ü ما حفزني ودعاني لكل هذه التفاصيل حول صنعة الآبري، هو ذلك التعليق الذي تضمنه حديث وزير الخارجية علي كرتي لبرنامج «مؤتمر إذاعي» الذي تبثه الإذاعة السودانية أمس الأول، وهو حديث غير أنه يتفق- في خطوطه العريضة- مع ما ذهبنا إليه في هذه المساحة من نقد لرفض حكومة الخرطوم التعامل مع مجلس الأمن والأمم المتحدة، يحذر، بل يسخر من خطاب «ساسة الآبري» بقول كرتي: «في ناس بتقول بلوه واشربوا مويتو، لحدي ما يغرقونا بالبيبلو ويشربو دا». ولم أسمع من قبل مثل هذا النقد والتأفف الصريح من خطاب «الآبري والحلومر» الذي درج قادة الإنقاذ على تكراره من أحد المسؤولين التنفيذيين الكبار ممن هم في مقام علي كرتي وزير الخارجية، وهذا في حد ذاته مؤشر إلى أن هناك أكثر من «تيار» وأكثر من «رؤية» تعتمل في أحشاء الحزب الحاكم ومواعين صناعة القرار فيه. ü لكن مهما شطح بنا الخيال، فالواقعية تدعونا لتصور أن حديث كرتي وإعلان وزارة الخارجية الموافقة المبدئية على قرار مجلس الأمن المستند إلى خريطة الطريق التي أعدها الاتحاد الأفريقي وآليته رفيعة المستوى بقيادة ثابو مبيكي قد صدر من الوزير والوزارة دون استشارة الرئيس البشير وهيئة الرئاسة، فالقرار يمثل تراجعاً «علنياً» عن موقف «علني» مذاع ومنشور ومُتلفز بأن السودان لن يقبل بإحالة ملف النزاع بين السودان وجنوبه إلى مجلس الأمن، وأكثر من ذلك صورت الإحالة بأنها «اختطاف» من جانب مجلس الأمن والأمم المتحدة لملف يجب أن لا يغادر- كما تصوروا- حدود القارة ليسبح في فضاءات الكوكب الفسيح، وهو تصور لا أرى له مسوغاً في ضوء المعاناة المتطاولة مع عدم قدرة الاتحاد الأفريقي على فعل شيء ناجز في كل القضايا المُعلقة بين شطري الوطن المنقسم، لا قضايا الحدود ولا قضايا النفط ولا قضايا أوضاع المواطنين في الشطرين، حتى حلَّت بنا كارثة «هجليج» وما صاحبها من خراب وتدمير لفرص حسن الجوار والتواصل ونقصٍ في الأنفس والثمرات. ü ومع ذلك عجبت لقول كرتي من «إن الخرطوم لن تجلس على طاولة حوار مع جوبا ما لم تضمن إيلاء القضايا الأمنية بين البلدين أولوية في المباحثات»، وهو كلام ربما هدفه مسايرة «الخط العام» لخطاب حزبه السياسي أكثر من كونه رسالة لمجلس الأمن ومتخذي القرار فيه، فالسيد كرتي يعلم أن القضايا الأمنية وتفصيلات الشغل عليها قد احتلت المساحة الأكبر في مسودة القرار، وأكبر دليل على هذا أن مجلس الأمن قد أعطى الطرفين مهلة (48) ساعة لا غير لوقف الاعتداءات، كما نص صراحة على عدم دعم أي من الطرفين للمتمردين في أراضي الطرف الآخر والانسحاب من المناطق المتنازع عليها الخمس إلى حين الوصول إلى تسوية مقبولة للطرفين، بل وانسحاب الجيشين إلى داخل حدود أي من الدولتين بمسافة كافية لتجنب الصدام، فالحديث إذاً بعدم الجلوس إلى مائدة التفاوض خلال الفترة المقررة بنص القرار بثلاثة شهور كحد أقصى لتسوية النزاع إلا بتقديم القضايا الأمنية، لا يضيف شرطاً حقيقياً لموقف الخرطوم من القرار الذي يعطي الأولوية أصلاً «للقضايا الأمنية» التي حركت مجلس الأمن لتولي الملف. ü وبرغم انتقاده ل«خطاب الآبري» وبله وشرابه، فإن كرتي قد قال كلاماً كثيراً في ذلك البرنامج مجاراة لنفس الخطاب، منها «اختطاف الملف» من الاتحاد الأفريقي غيرةً منه ومحاولة لإضعاف دوره، وغياب ممثلين لذلك الاتحاد عن مداولات مجلس الأمن، كما أبدى استياءه من تصنيف القرار «هجليج» كمنطقة متنازع عليها، وهو ما أشرنا إليه في ملاحظاتنا في «إضاءة» الخميس على مشروع القرار الأمريكي، الذي عمد إلى صياغة تُجمل كل «الإدانات» في فقرة واحدة، لأن غزوة «هجليج» هي ما صعّد النزاع للدرجة التي استدعت تدخل مجلس الأمن ومطالبته علناً لجوبا بسحب قواتها، فكان لابد من إدانة الهجوم على هجليج ابتداءً ومطالبة دولة الجنوب ثانياً بالتعويض العادل عن كل الخسائر التي الحقتها بالمنشآت والأرواح والموارد والبيئة كما كتبنا في تلك الملاحظات، وحسناً فعل مجلس الأمن- بدون جهد ملحوظ من الخرطوم- أن قرر تشكيل لجنة محايدة لحصر خسائر الهجوم على حقل هجليج وما حوله. ü في «إضاءة» الاثنين من الأسبوع الماضي، التي جاءت تحت عنوان: «ما الحكمة في رفض مجلس الأمن الدولي وتفضيل الاتحاد الأفريقي»، نبهنا إلى خطورة التمترس وراء الاتحاد الأفريقي باعتباره بديلاً لمجلس الأمن الدولي، أعلى مؤسسة في المجتمع الدولي مسؤولة عن صيانة السلم والأمن الدوليين، وقلت إن الاتحاد الأفريقي أعجز من أن ينجدنا وظروف بلادنا لا تحتمل سنوات أخرى من «اللَّت والعجن» في إطار ذلك الاتحاد الأفريقي العاجز، وكنتُ أقدر، ليس رجماً بالغيب، ولكن لأن منطق الأشياء والعلاقات الدولية يقرر ذلك، بأنه إذا ما صدر قرار- تحت الفصل السابع خصوصاً- فإن بلادنا «كراعا في رقبتا» ستتراجع عن حكاية «الاتحاد الأفريقي المُبجَّل» هذه، وتوافق على القرار، لكن ما يهمني في هذا كله هو أننا أضعنا وقتاً عزيزاً في المناكفة و«الملاواة» والانشغال بالاتحاد الأفريقي، عِوضاً عن استثمار ذلك الوقت في جهد دبلوماسي فعَّال ومؤثر ورصين في الاتصال والتفاوض من أجل تحسين مشروع القرار الدولي وتصويبه وجهة مصالحنا، خصوصاً في ضوء الخطيئة الغبية التي أقدمت عليها جوبا باحتلال هجليج، لكن «تقول لمين؟» أهلنا يقولون عندما يشتجر الحديث «اللعوج كلام.. والعديل كلام».. والله غالب!