ربط الشيخ جلبابه على خاصرته ثم دخل الى القبر..كانت مهمته دائما ان يضع الحجر الاخير الفاصل بين الحياة والموت..الجو الساخن جعل جلده يرسل مزيج الدهشة..رائحة (الحنوط ) تختلط مع بقايا نكهة دلكة لم يغسلها حمام الصباح..كل ذلك مع رائحة العرق السائل من الوجوه المجهدة والافواه التي فاجأها موت الحاجة الرضية ولم تحسن السواك..قفز الشيخ من محيط القبر برشاقة..التراب بدأ ينهال على المرحومة التي كانت تبتسم حتى عشاء البارحة. أولاد الشيخ في المسيد الملحق بالمقابر بدأوا يتلون اي من الذكر الحكيم..لمح الشيخ رجلا من الحضور يذكره بالماضي..لم يقوى على ارسال البصر كرتين..الشبح يشبه زوج العازة..انه الرجل الذي قتله بيديه قبل ان يتوب ويصبح شيخا له مزار واحباب ومريدون.. واحد و عشرون عاما مضت على تلك الحادثة التى شقت سكون بادية كردفان في ليل شتوي. مضى الشيخ مسرعا الى المسيد المقام في الطرف القصي للمقابر..زوجته الصغيرة حملت له كوبا من الليمون البارد..شاح بوجهه ودخل الى الخلوة..هنا بوابة المنتهى لا أحد بوسعه ان يتتبع الشيخ..ربما يمكث بالداخل يوما او بضع يوم واحيانا تستمر الخلوة اسبوعا..تمدد على الحصير وتوسد يده اليمنى. بدأ يسترجع المشاهد..فتن بهذه الصبية الفاتنة..امها غجرية وابوها من فريق العرب..أهل البادية اسموها (النار ولعت)..عندما فاتح ابوه في امر الزواج من العازة (تنحنح) شيخ العرب..الناظر كان يخشي على الدماء الملكية وان يرث العرش حفيد الغجرية..لم يتوقف الزعيم في الاعتراض بل اوحى الى ثري في القبيلة ان يتزوج العازة فوق زوجاته الثلاث. لم يرض الجيلي بقسمة والده الناظر..لا احد يستطيع ان يعلن العصيان في وجه سلطان قاهر..اراد حلا وسطا يرضي الجميع..يتسلل الى الخيمة كلما سنحت سانحة يقضي وطره ثم يعود الى دار الناظر..استمرت التسوية سنوات ليست بالقصيرة..بعض اهل الفريق كانوا يعلمون ولكنهم يمارسون فقه السترة..لا احد يريد ان يخرب بيتا عامرا. لا أحد على وجه التأكيد يعرف لماذا عاد كبوش الى دار العازة في الفزع الاخير من الليل..دارت معركة حول الفراش بين رجل يدافع عن شرفه واخر يقاتل دون حبه..انتهت الحرب بمقتل صاحب الدار..الجيلي حمل جثمان غريمه ودفنه في جوف الصحراء..عاد وغسل يديه وصلى الصبح من وراء والده الناظر. عندما اشرقت الشمس وسرى الخبر بين الناس ..اصدر الناظر حكما بتغريب من طالتهم التهمة..امر بتسفير الزوجة الى مدينة نائية .. وطلب من ابنه ان يمضي نحو الصعيد..كان ذاك حلا عرفيا يمسك لحمة القبيلة من التمزق والانشطار. اراد الجيلي ان يكفر عن سيئاته..سكن في طرف مقابر المدينة واطلق لحية واسمى نفسه الشيخ..بدأ يساعد الناس في حفر القبور ومواراة الموتى الثرى..المدينة التي تبحث عن شيخ بايعته طوعا..بعض الاسر كانت تطلب منه تعليم الاطفال القرأن الكريم رغم انه لا يحفظ من كتاب الله الا القليل..طرف البيت اصبح خلوة..وقطيته اصبحت ضريحا..بدأ يجيد الدور الذي لم يختره..المدينة اسمته الشيخ الضيف. ثلاث ليال لم يسمع احد صوت الشيخ..في اليوم الرابع بدأت رائحة الموت تخرج من تلك القطية. تجمع الناس من اطراف المدينة وبايعوا ابنه الذي لم يتجاوز عمره الثامنة عشر خليفة.