إنك لا تستطيع- حين تدرس أوضاعنا الاجتماعية الحاضرة دراسة منصف وخبير- إلا أن تلاحظ أنه من أكبر أسباب الفوضى والاضطراب في حياتنا بُعدنا عن الاعتدال فيما نحب ونكره، ونؤيد ونعارض، ونعمل وندع، فهذازعيم يغالي فيه أناس حتي يجعلوه في مصاف الملائكة لا عيب ولا وزر ولا خطيئة ولا نقيصة، ويغالي آخرون فيه حتى يهبطوا به الى مستويى الشياطين، لا فضل ولا مآثر ولا إخلاص ولا كفاءة ينتصر له المحبون حتى في الباطل والأذي ويحاربه المبغضون حتي في الحق والفضيلة، وهذا عالم يغالي أشياعه فيزعمون أنه يملأ طباق الأرض علماً حتى ليحيط علمه بكل شيء ويكشف ذكاؤه كل مبهم، ويغالي شانووه فيزعمون أنه الجاهل الذي أحاط به جهله، والمغرور الذي غطى حقيقته على الناس غشه ودجله فإن احتاج الأمر الى الذكاء كان البليد الذي لا يحس، وإن احتاج الى الفهم كان الغبي الذي لا يفهم، وهذا مصلح يزعم المعجبون به أنه فوق الأهواء والشهوات ، ويراه المبغضون أنه أفاق لا يعمل إلا لنفسه، فإذا عمل فليس إلا الشهوة أو المنفعة، وإذا تكلم فليس إلا للخداع والتضليل، وهذا حزب يزعم أنصاره أنه الطريق الوحيد لمجد الوطن وخلود الأمة، بينما يزعم خصومه أنه طريق الفوضى والشر والتهديم لكل ما تملكه الأمة من قيم، وما تبنيه من عمل، وتجعل من فلان باني أمة وعزة وكرامة، وأخرى تجعله خائناً مأجوراً مخرباً يستحق الموت، ولا يستحق الحياة ولا احترام أهل الحياة، فما أشد شماتة الأعداء بنا في عالم يتربص بنا السوء، ويتتبع منا العثرات والغفلات، إن الاعتدال في أمر هو ملاك الخير كله والنهي عن المغالاة في كل شيء، والإسلام نهانا عن الغلو حتي في العبادة، بحيث ينقطع صاحبها عن الحياة، ونهانا عن الغلو في العصبية الخارجة عن قواعد العدالة.. وهذه يهيء روح الشريعة اعتدال في كل شيء ووسط في كل أمر، وبذلك سمانا الله تعالى أمة وسطا.. قال تعالى:« وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...»