عندما وثبت الانقاذ على السلطة كانت تعلم أنها مواجهة بمشكلة اقتصادية طاحنة، ولذا جمعت الاقتصاديين والماليين من خبراء الوطن واتفقوا على أن تتولى الانقاذ تطبيق برنامج التحرير الاقتصادي، وكنت آنئذٍ من المتحفظين على السير في هذا الاتجاه بيد أني وبلا حيلة، ولكن من منطلق التخصص الاكاديمي والخبرة العملية والاحتكاك مع القاعدة العريضة التي ستتأثر بما قد يحدث. كانت الشرائح المجتمعية الضعيفة يؤرقني أمرها فطفقت أطالب بمعالجة ما قد يحدث لها، ثم أيقنت الحكومة أنها لابد أن تعالج موضوع تلك الشرائح، والتي قد تطحن من سياسة التحرير الاقتصادي، فأنشأت صناديق دعم ومؤسسات خدمية لصالح تلك الشرائح، وكان الخطأ الأول أن من تولوا أمرها تولوا أمر انفسهم من حيث المزايا المادية والعينية والفواره والمكاتب وهلمجرا!!!!! والخطأ الثاني أن سياسة التحرير الاقتصادي استوجبت أن تنفض الحكومة يدها من المؤسسات والشركات التابعة فهي اذن بانشاء الصناديق تضاد ما تفعله إزاء شركاتها ومؤسساتها، علماً بأنها كانت تضم الآلاف من العاملين ولم تكن تضر الحكومة في شيء. كان نهج الاعتماد على الذات أول عهد الانقاذ موفقاً جداً حيث تحمس المنتجون والعاملون في شتى المرافق إلى أن غرست جذورها وبدأ الطل يطل على براعمها ايذاناً بعهد جديد. ثم عندما تفجر الذهب الأسود تنفس الناس الصعداء واستبشروا خيراً وحسبوا أن مشاكل السودان حُلَّت، وقلنا وكتبنا إن السودان على أبواب نهضة، وعلى مشارف عهد جديد. وفي واقع الأمر أن النظام لم يكن له مشروع نهضة ملموس وممنهج، وانما كان له مشروعه الحضاري دون أن يفصح عن ماهية هذا المشروع وأن علم الناس أنه المشروع الاسلامي. ثُمّ ومن ثَمَّ صارت عبارة النهضة تجد طريقها في المنصات والمؤتمرات والورش الكلامية، وما هي إلا أيام حتى ظهر مشروع النهضة الزراعية، الذي شهدت على عهده البلاد دماراً شاملاً في المشاريع الزراعية. الآن ولدى النظام مشروع النهضة عبارة عن استهلاك لمساحات اعلامية يدغدغ جوانح المجتمع ويرطب افئدته علماً بأن المجتمع هو الآخر لا يدرك عملياً ما تعنيه عبارة النهضة. إن مشروع النهضة أيها الناس هو المشروع الحضاري الذي كانت تبحث عنه العبارات الفضفاضة في الخطب الرنانة والتي كانت تنزل برداً وسلاماً على افئدة المواطنين والناس كما يقولون على دين ملوكهم. كتبت للانقاذ في كتابي الذي اهملته وسفهت احلام كاتبه عن النهضة!! وكيف ينشأ وكيف يحافظ النظام على تماسكه وتقدمه، وقلت فيه لو يسمعون إن الفرق بين استقلال الصين واستقلال السودان سبع سنوات فقط وأن شعب الصين تركه المستعمر مغيباً في المخدرات والوهن والخمول وترك المستعمر السودان وتقابات القرآن تضيء القلوب وتمحو ظلمة الليل البهيم في كل مكان وضيع السياسيون السودان وهم مسلمون وصعد الصينيون إلى أن وصلوا ما وصلوا إليه وهم كافرون. وما زالت المسافة بيننا وبين الصين تزيد وتزيد ونحن لا يتلمس سياسيونا ما عسى أن يكون مفيداً والحكمة هي ضالة المؤمن إن وجدها فهو أحق الناس بها، هذا وكنت دائماً أقول المثل الدارجي «كلام القصير ما بنسمع» ويقابله المثل العربي «لا يسمع لقصير امرا». إن النهضة الاقتصادية مشروع متجرد ولكن مهما كان لونه فهو مشروع اجتماعي اقتصادي سياسي يخرج من مشكاة واحدة- فإن ضربنا المثل بالصين فإن دول آسيا التي خرجت من القمقم كانت تعاني من مشاكل هي أدهى وأمر مما يعاني منه السودان. المسألة تبدأ بالإرادة السياسية، ولابد أن يكون للحزب الحاكم مشروع نهضة يبث لواعجه المفكرون اولو الألباب ولأننا مسلمين لا نريد أن نتملص من انتمائنا وتكليفنا الرباني ورسالتنا السرمدية فإن مشروع النهضة يتطلب افساح المجال للفلاسفة، الذين يعلمون ما يدور في العالم وما دار فيه من أحداث تاريخية، ثم يستوعبون ما انتجته الانسانية حتى وصلت لما وصلت إليه، ومن ثم تنطلق البلاد بمنهج مخرجاته من مشكاة واحدة. في البلاد التي سبقتنا مادياً لا ترى الفلاسفة فيها والمفكرين، بل تعد لهم وسائل البحث والبيئة التي تمكنهم من شحذ عقولهم ثم يبلورون منهجاً مرئياً متماسكاً متضمنة آليات بقائه واستمراريته واصلاح ذاته وتطويرها. هذا المنهج المتكامل لا يترك بطبيعة الحال الاصلاح السياسي في الحزب، وفي الساحة كلها، ويستلمه الحزب فهو الذي يطبقه من خلال آليات الدولة الدستورية وغيرها. هكذا فعلت الدول التي رسخت أقدامها وتطورت، وعقولنا ليست بأقل من عقول مفكريهم بل نحن المسنودين بكتاب الله الذي ما إن تمسكنا به لن نضل ابداً. تبدأ النهضة بالفرد باصلاح شأنه وتقويمه حتى يكون مؤهلاً للمشاركة في تحمل اعبائه النهضوية.. انها عملية ثقافية اجتماعية اقتصادية وسياسية. لا يمكن أن تبدأ النهضة الا بارادة سياسية قوية تتجاوز المعوقات والمكبلات التي تقف في سبيل الانطلاق، وهنا يبرز دور الحريص المؤثر الذي يهلك نفسه في سبيل هدف ما هم ببالغيه الا بشق الأنفس. إن النهضة ليست مجرد فكرة متقوقعة في الأمخاخ وليست في نفس الوقت املاً بعيد المنال، وإنما هي من ثمرات الفكر تتمحور وتتبلور وتمسي عقيدة سياسية وهدف قومي ثوري تحرك به الجماهير نحو العطاء المرشد الممنهج، والذي له غاياته وأهدافه ووسائله، أما ما خلا ذلك فلا..! وعلى رأس من نحسب أنهم أكثر حرصاً على الحركة الاسلامية السودانية التي لم تنحل بعد من آثار التحنيط وعليها أن تأخذ الأمور بطريقة متوازية لا يشغلها جانب عن آخر، وعليها أن تلتفت إلى نفسها بحيث تدرك أن الاستعانة غير المرشدة بالعاملين يمكن لمن أراد أن يزرع في أعماقها غواصات كما هو الحال في ولاية الخرطوم.