٭ ليس كل العسكريين سواء.. عندما يتعاطون مع السياسة.. فمنهم قادة ومفكرون سياسيون عظام تركوا بصماتهم في تاريخ الامم.. ومنهم من لم يتمكن ابداً من فهم السياسة ودينامياتها الفكرية أو العملية.. خصوصاً أولئك الذين دفعت بهم الظروف الى متاهاتها بدون كبير تدبر أو سابق تخطيط هيأه انتماء سياسي أو تثقيف ذاتي عميق.. فتراهم يسيرون في دروبها وكأنهم سكارى، وما هم بسكارى، يتخبطون ذات اليمين وذات اليسار من غير هدى أو كتاب منير.. ٭ منهم قادة تاريخيون ومفكرون كنابليون بونابرت ووينستون شيرشيل والجنرال ديجول وجمال عبد الناصر وآيزنهاور. ٭ ومنهم من زجوا بشعوبهم في متاهات ودروب مظلمة جراء تخبطهم وضمور قدراتهم.. من أمثال القذافي وجعفر نميري وعيدي أمين وبوكاسا.. وعشرات آخرين يشبهونهم في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أذاقوا شعوبهم البأساء والضراء.. ثمناً لصعودهم إلى كراسي حكم لم يعدوا لها أنفسهم جيداً.. قد يكون نوايا بعضهم طيبة، لكن تعوزهم الحيلة والفكرة. ٭ مناسبة هذه المقدمة استدعاها مقال للفريق ابراهيم الرشيد بالغراء «اليوم التالي» -الاثنين 61 رمضان الحالي- حمل دعوة مفتوحة -وبالطبع- علنية للرئيس البشير تحت عنوان طويل ومركب -من نحو 51 كلمة وحرف نحوي يقول: اذا لم يتفق على حكومة «قومية» أو انتقالية؟.. «اجعلها عسكرية صرفة يا ريس». ٭ ومن دون نسبة الفريق المحترم الرشيد إلى أي من التصنيفين الواردين في التأملات التي حملتها المقدمة.. إلا أن دعوته لتشكيل حكومة عسكرية تستحق المناقشة.. لأنها على الأقل تحمل «عينة» وتعطينا «فكرة».. عن كيف يفكر بعض «الجنرالات» السابقين في معالجة الأزمة التي تعيشها بلادنا.. والتي ما هي إلا بعض نتائج الحكومات العسكرية المتعاقبة التي شغلت جل المساحة الزمنية منذ نيل البلاد للاستقلال في 6591.. والتي انبثقت معظمها عن امتزاج تآمر السياسيين وطموحات العسكريين الشخصية.. فاقعدت البلاد ووضعتها في الحال التي هي عليه اليوم والذي لا يحتاج شرحاً أو توضيحاً. ٭ قال السيد ابراهيم الرشيد في مفتتح مقاله إنه كان قد كتب تحت ذات العنوان في وقت سابق: «بعد مفاصلة رمضان 8991».. وكان وقتها (الحديث جلل!) والهزة تحت مؤسسات الدولة داوية والخلخلة في مؤسسات الدولة عظيمة، وأصبح الناس وقتها حيارى وجلين إلى أي منعرج يسير (الوطني).. أظنه يقصد (الوطن)!! ٭ بمعنى آخر يريد الفريق الرشيد أن يقول انها المرة الثانية التي يدعو فيها البشير لتشكيل حكومة عسكرية «صرفة» وكانت المرة الأولى إبان مفاصلة رمضان 9991 -وليس 8991 كما اوردها خطأ أو إلتباساً-.. فبدا الفريق وكأنه يحتفظ بهذه الوصفة «الناجعة والنادرة» يخرجها «عند اللزوم».. عندما تظلم الآفاق وتنبهم المسالك والدروب! ٭ يعرض الفريق مبرراته التي ساقها لتولي المؤسسة العسكرية لشؤون الحكم بحسب صياغته التي جاءت على النحو التالي: (كنت أرى وقتها في اللجوء للمؤسسة العسكرية مخرج قد يرضاه الجميع لتسليمها مقاليد الحكم لفترة انتقالية محددة متفق عليها تكون المهام خلالها واضحة، وموثقة لا تخرج عن «قبول كل الأطراف السياسية» تتمثل في جمع الصف الوطني والوصول إلى سلام دائم ونظام للحكم يرضاه الجميع ودستور شامل ودائم واجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت اشراف القوات المسلحة لتصبح نتائجها «مقدسة» بين الجميع.)!! ٭ هذا هو جوهر الفكرة التي تسيطر على عقل ووجدان الفريق والتي صاغها على النحو الذي عرضناه في النص أعلاه.. طرحها من قبل ولم تجد الاستجابة ويعرضها اليوم مجدداً على الرئيس في سوق السياسة المحلية.. والتي ربما من بينها محلات «منبر السلام العادل» الذي يعتبر الفريق الرشيد أحد مؤسسيه ورموزه البارزة. ٭ وبغض النظر عن التخطيط والابتسار والاستعجال الذي صاحب صياغة الفريق لفكرته التي جمعت بين النقائض.. بين حكم عسكري صرف يدير شؤون البلاد، من نوع «الاحكام العرفية».. وبين «الرغبة» في تأسيس نظام ديموقراطي منتخب و(مقدس) وسلام دائم ونظام حكم يرضاه الجميع.. ففي عرف الفريق كل ما يتمناه الشعب السوداني من الاجابة على سؤال: كيف يحكم السودان؟ يمكن العبور إليه من خلال حكومة «عسكرية صرفة» باعتبار أن المؤسسة العسكرية هي «الحضن الدافيء، القومي، الوطني، ومن غيرها.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.» أو كما قال. ٭ يكتب الفريق الرشيد، وكأنه لم يعش معنا في السودان طوال مراحل الحكم الوطني منذ الاستقلال، والذي شغلت فيه «الحكومات العسكرية» مقاعد الحكم معظم الوقت إلا قليلاً، كما سبقت الإشارة، فماذا كانت النتيجة.. سعادة الفريق؟! ٭ يكتب الرشيد ناسياً أو متناسياً أن الأصل في نظام الحكم القائم هو «انقلاب عسكري» بتدبير من عناصر لحزب «الجبهة القومية الاسلامي» داخل المؤسسة العسكرية -وليس الجيش في قوميته التي يشير إليها!!- نظامٌ عسكري تم «تطعيمه» لاحقاً بعناصر مدنية تنتمي للحزب المعني وموالين له فكرياً أو سياسياً بهدف (التمكين).. بما لا يتعارض مع أسس الحكومة العسكرية أو الشمولية التي انتجها الانقلاب يجاهد القوم اليوم -ساسة ومجتمع مدني ونخب فكرية- من أجل الخروج من مأزق الشمولية الذي وقعت فيه البلاد سياسياً واقتصادياً.. محلياً واقليمياً ودولياً.. يجاهدون ويجتهدون من أجل تأسيس نظام جديد وتحول ديموقراطي حقيقي. ٭ باختصار دعوة الفريق الرشيد «لحكومة عسكرية» هي دعوة «لانقلاب في داخل الانقلاب» ولمبررات قريبة جداً من المبررات التي حملها البيان الأول للإنقاذ عام 9891.. بالرغم من اضطراب الصياغة التي جاءت عليها الدعوة.. ابراهيم الرشيد يفسر الماء بعد الجهد بالماء أو يداوي الحالة السودانية ب(التي كانت هي الداء)، إنه بعض التغريد خارج السرب الذي اعتدناه من «أهل المنبر»، مع وافر الاحترام لسيادة الفريق على المستوى الشخصي.