الزميل محمد عبد الله يعقوب .. أطار النوم من عيون الكثيرين قبل يومين، من خلال الجولة التي نشرها في هذه الصحيفة، والتي خرج منها بتأكيد على لسان بائع كبير للضأن، بأننا على موعد خلال عيد الأضحية .. مع الخروف أبو مليون ! الكترابة !! مليون جنيه للخروف ؟! أظنه خروفا مرفها من فئة (الدفع الرباعي) ! أو ربما هو خروف (ثمانية سلندر) ! قبل أسبوع تقريبا، قلت لقراء (تحت الغيم) إن أقل سعر متوقع للأضحية، هو نصف مليون، وبصراحة كنت أود أن يحتاط الناس، ويضعوا في اعتبارهم أن الضحية ليست (لعب عيال)، لكنني كنت بيني وبين نفسي واثقا أن نصف مليون جنيه كافية للضحية .. الآن .. غيرت رأيي ! فما تم نقله لم يكن توقعات هواة، بل كان كلام محترفين جاء على لسان (أكبر بائع للخراف بالثورة شمال) ! مشكلة الخرفان .. أنه لا يوجد معها خيارات، فلا تستطيع مثلا اللجوء لشراء (خروف مستعمل)، فالخروف دائما جديد لنج، وهذا باعتبار أنه لم يسبق لأحد قبلك أن التهمه !! والخروف لا يمكن استيراده، فسوق الخرفان (حصري) .. وليس بالإمكان اللجوء للصين مثلا، أو أستراليا أو نيوزيلندا .. أو حتى الصومال .. لاستيراد خروف كما يحدث في بعض الدول الشقيقة . والأهم، أن الخروف لا يمكن سعايته في بيوت الخرطوم، ويصعب الصبر عليه من طفولته .. إلى بلوغه (الخرفنة)، والسبب ليس فقط لأن البيوت ضاقت بالبشر، ولكن، أيضا، لأن أثمان السعاية تقصم الظهر، حيث أشارت جولة الزميل (محمد) إلى الأثمان المخيفة للأمباز، والقصب، وورتاب الفول، والبرسيم، والدريش، و(ملح البهائم) .. الذي لم أسمع به قبل يومي هذا ! من يتصور ما يحدث ؟! لقد أصيبت الدنيا بلوثة عقلية، فلم يكن أهلنا يتلفتون حين يأتيهم الضيف، فيتجه المضيف من مكانه للمُراح المنزلي، ويختار الكبش الذي يليق بمكانة الضيف، ويذبحه فرحا وتكريما دون أن يحس للحظة أنه فعل شيئا يفوق الواجب!! بل ما أكثر ما كان يفعله أهل الاحتفاء، والسمر، والأنس، حين كانوا يأتون لرحلاتهم، ومجالس أنسهم، مستصحبين الخرفان للذبح، وباسطين الطعام والخير لكل من حضر، ولو كان الحاضرون جيشا من الأكلة النهمين ! انقلبت الدنيا، وأصبح الاحتفاء بالناس، في بلد الثروة الحيوانية الباذخة، محصورا بالمشروبات الغازية، بعد أن كانت معالم الاحتفاء لا تكتمل .. حتى يراق على جوانبه الدم !! وتغيرت الصورة، حيث كان الناس يبتهجون بالعيد، ويوفرون بسهولة سعر الأضحية، ويفرح الصغار والكبار بالخروف .. وخصوصا حين يصدح بصوته الشجي : بااااااع .. باااااع ! .. تغيرت خلفية المسرح، وأصبح العيد همّا يضاف لهموم الناس، وبدأ الآباء يحسون بالهزيمة، وهم يفكرون بشكل جدي في (الزوغان)، وتأليف التبريرات، وحساب الميزانية المثقلة بالأقساط والاقتطاعات و(الصناديق) وحساب الدكان ! الخروف أبو مليون .. هزيمة للاقتصاد السوداني، وهزيمة لأساطير ثروتنا الحيوانية التي تغذت بها عقولنا، وحتى لو كان بنصف مليون، فالهزيمة ماحقة .. لبلد يبيع غذاءه للآخرين .. ليبقى أبناؤه متضوّرين جوعا .. سحقا لك أيتها الدولارات !