{ حين أدرك الأستاذ الكبير «إدوارد سعيد» أنه مريض بمرض عُضال قد يُعجِّل بوفاته، قرر أن يكتب مذكراته! في محاولة لهزيمة المرض على طريقته الخاصة، وكذلك فعل العديد من الكُتّاب والمبدعين أمثال «مارسيل بروست» الذي كان محروماً من الضوء والزهور والزيارات، لأنه مُصاب بحساسية ضد العديد من الأشياء إلا القلم، فعاش في الظلام يكتب، ويكتب، مُرجئاً اللحظة التي يحتضر فيها بطل روايته الشهيرة «البحث عن الزمن الضائع» حتى تقترب ساعة موته الحقيقية، لينقل إحساسه بصدق على الورق. { وحين أنشب المرض الخبيث مخالبه في جسد الكاتب المسرحي الخليجي الشهير «سعد الله ونوس»، استغرق في الكتابة بحيوية من يعرف أنه لم يعد يملك وقتاً يضيّعه، متجاهلاً شعوره السابق بعجز المبدع عن إحداث تغيير واضح يُذكر، والذي بدأ واضحاً في كلماته المعروفة: «كلما حاول أديب في بلادنا أن يتحدث عن وضعه، فإنه يبدأ في الشكوى، يرهقه الإحساس بأنه هامشي أو مهمّش، وبأن كلماته تضيع وتندرج في روتين حياة يومية قاحلة، لقد ظنّ أن كلماته حين تُنشر ستُغير أوضاعاً، وتُبدل أُناساً، ستدوي، وتؤثر، ولكن ها هو بعد أن نثر ما نثر، بعد أن أصدر كتاباً وكتاباً، يكتشف أن أحلامه لا تختلف عن الأوهام، وأن دوره محدود لا يتجاوز مداه مجموعة صغيرة من الناس!!». { هذه النبرة الحزينة اليائسة، ليست أكثر من لحظة انكسارعابرة يمر بها كل من يملك قلباً نقياً يتسع لكل العالم، وهكذا حال أصحاب الأقلام، يتجاوزون إحباطهم ويعصرون أفكارهم ومشاعرهم ليُخرجوا الكلمات للناس وقد تعنيهم أولا تعنيهم، وهناك من يحتفي بها ويقدّرها، وهناك من لا يكترث لها ولا يُدرك حجم المعاناة المبذولة في إخراجها. إن الكاتب يظل دائماً في حالة من البحث والتنقيب عن كل جديد يقدمه لقرائه الأعزاء، لا سيما عبر القراءة المستمرة، وقد وصف أحد الكُتّاب شعوره وهو يرى كمية الكتب التي تتكدّس فوق طاولته وتملأ غرفته وهي الكتب التي يجب أن يقرأها ولا يجد وقتاً لذلك بقوله: «هل تعرفون ما هو الحزن العميق الذي أشعر به؟: أنظر إلى الكتب الموجودة في المكتبة وأقول وا أسفاه، سأموت دون قراءة هذه الكتب، وكأن هناك فرقاً بين الموت من دون قراءة هذه الكتب والموت بعد قراءتها!! إنّه جنون الإبداع. { وقد يراها البعض حماقة، غير أنها حماقة من نوع خاص تصل لدرجة أن تُصبح خاصية مميزة تميِّز البعض دون سواهم، إنه الحرص على الغناء من أجل الخلود، والإيمان المُطلق بالقدر ومحاولة إبقاء أثر طيب طالما الموت واقع لا محالة، إنهم مبدعون أحبوا ما يقومون به وفضّلوا البقاء على حبهم له حتى النهاية، والعطاء حتى الرمق الأخير قيمة عظيمة، أكد عليها الإسلام عبر تاريخه الأصيل، ويُحكي أن سيدنا «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه سأل «خزيمة بن ثابت» عن السبب الذي يمنعه من فلاحة أرضه وتركها بوراً جرداء؟ فكان جواب الأخير: «إنني شيخ كبير، أموت غداً». ولم يقنع هذا الجواب سيدنا «عمر» رضوان الله عليه، بل أمسكه من يده وأعانه على الزراعة والتمرد على اليأس الذي سيطر عليه. { وعن «أنس» رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن يقوم حتى يغرسها فليغرسها» ، لهذا علينا أن نحرص على القيام بما علينا رغم جميع الإرهاقات التي تُنبئ بالنهايات، فلنقاوم المرض والعجز والمزاج السيء ونفعل شيئاً محموداً نؤجر عليه لنسعى به نحو الخلود، أقول هذا وأنا يغمرني أحياناً إحساس قاتم بالعجز عن الكتابة، وأحياناً خوف مريع من المستقبل والحال التي سيكون عليها أبنائي من بعدي لو حدث لي مكروه لا قدّر الله، فأتأثر بذلك وأركن للأسى والقلق مما يجعلني أتوانى من القيام بالكثير من التزاماتي، ولكن حكاية هؤلاء المبدعون الذين لا يتوقفون عن العمل حتى اللحظة الأخيرة بهرتني والإبداع لا يقتصر على الإمساك بالقلم أو الريشة، فكل إنسان مُبدع على طريقته وفي مجاله وهذا لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى. { تلويح: أرجو أن تقرأوني عندما أغادر، فقد كتبت لكم بروحي وأتمنى أن أظل في الذاكرة..