كان مفاجئاً جداً، أن أتسلم مخطوطة بالغة التشذيب اللغوي والمعاني، ممهورة بإهداء رجل مختلف عليه، متصوِّف إن صح مقام مهنته في عالم رجال الأعمال الصوفية، ومفكر إسلامي، من منظور متميز في الرؤى، والأمين العام لمجلس الذكر والذاكرين؛ المهندس (الصافي جعفر الصافي)، يناصحني في الإهداء، بالعمل بنصحها ضد الانهزام، بأن (لا تهنوا)!! ولم يهن عليَّ أن ألقيها داخل حقيبتي تنتظر ريثما أبدل حقيبتي بحسب مستلزمات الأناقة المدينية، ومزاجي بحسب مقتضيات الموضة الشتوية. فتشبثت بها خارجاً بين يديّ، وهي مطبوعة متوسطة الورق، مصقولة، خفيفة الوزن، ثقيلة بما تحمله من أحاديث ونصح مستشهد بآي الذكر الحكيم. ولأنني أعتقد أنه من باب الحكمة والذكاء الاجتماعي أن تستمع لرأي من تخالفه، فمن توافقه يكفيك منه أن يهز رأسك بالرأي الموافق لك! فقرأتها مباشرة، ولم أحتفظ بحيادي أو الضد؛ فالحديث يتداخل بشعاب مرجانية في ثنايا الروح قبل العقل، ويلزمك بالتفكير في ما يتعلق بحياتنا الحالية، ويخبرك بشكل معاصر أن الوقت كان في صالحنا كي نحسن التخاطب والتواصل واحتراف الكرامة وانسجام التعايش. فالنشاز في الخطاب الديني الحالي، إن كان بشكل مسيَّس يتبع لدولة ونظام حكم، أو يتبع لجماعة بعينها لفرض تعاليمها وآدابها وتقاليدها؛ حوَّل أشواق الناس إلى غيره، إما بالتناول الفردي للدين، والتمسك بحالات خاصة لرجال يعرفون الله ويقدّرون الدنيا حق قدر الدين، أو بالانجذاب تجاه طرائق لا ترهق العقل بقدر توغلها في غابات الروح، التي يملكها سيدها - سبحانه - وإما بالانشغال بالدنيا. مما جعل بعض رجالات الفكر الديني وشيوخ الطرق والطوائف يدنون من الترقق في الخطاب، والتقرب من أحوال وهموم الناس، وفرط الابتسام - فهم متجهمون - وحتى لا يبدو حديثي كمن يرتدي عباءة بغير مقاسه، وحذاءً غير قياسه، أبتعد لأفسح المجال لجزء من رسالته الأولى (لا تهنوا) التي اختارها لتكون قولته في أوان الفصل هذا، حيث سيكون الزمان شاهد إثبات في ما قاله وفعله الرجال! يكتب: (دخل الإسلام السودان مع بزوغ فجر الدعوة في مكة، ومع هجرة المسلمين إلى الحبشة التي هي السودان يومئذ. لم يدخل بالسيف وإنما بالصلح (البقط) وأقاموا أول مسجد خارج الجزيرة العربية في دنقلا. قاد حركة الإسلام يومئذ العلماء ومشائخ الطرق الصوفية والتجار المسلمون (منظمات مجتمع مدني) وتسرب الإسلام في هدوء كما يتسرب الماء والنسيم، ونشر بوساطة القدوة والكرم والخلق الحسن (الكسرة - الطعام والتواضع!) طريقة الدخول هذه تركت أثرها على تشكيلة العقلية السودانية، فجعلتهم يتميزون بإجادة فن التعايش). ويواصل: (والاستفتاء القادم هو محطة فاصلة في مستقبل البلد، ولذلك يجب أن يتم في جو هذا التصالح، وغير تدخل أجنبي، وفي حيدة وتجرد تام، وسيرضى الناس كيف كانت نتائجه، ولا أرى أسباباً لدواعي الهلع!). ويضيف في فصل رابع عن نماذج للصمود من التاريخ المعاصر، مثالاً عن الإمام المهدي، حيث ذكر: (يروي الرواة أنه عندما حاصر الخرطوم وطال الحصار وبدأ الفتور يدب بين صفوف بعض المحاربين، وقفت الشاعرة (بت مكاوي) تحرضهم على القتال مخاطبة جموع الأنصار: طبل العز ضرب بقينا للبرزة غير طبل (أم كبان) أنا ما بدور عزّة إن طال الوبر واسوه بالجزّة! وإن ما عم نيل ما فرخت وزّة. فتحركت مشاعر الإمام وأقسم أن يخوض النهر بخيوله فإن استعصى عليها الدخول برؤوسها جعلها تدخل بأعجازها! والنماذج كثر في تاريخ السودان في رفض الظلم والاستعصام بدواعي العزة والكرامة). لكن يا سيدي كرامتنا الآن تبدو في نزاع متصل بعدم الهوان، لكن من منظور عكسي، فما تراه ظلماً لك يراه الطرف الآخر عزة لك!! وما نحمله من وبر الخطايا على ظهورنا وعيوننا وصمتنا نحاول التعايش السلمي معه؛ يحسبه الحكام تطاولاً على عزتهم فيواسوننا بالجزّة! ومن جذورنا للاحتفاظ بكرامة أو كرم، الرجال الذين ضحوا بالوطن كي لا يهنوا هم! .