نحو أفق جديد (14) منظمات المجتمع المدني والديمقراطية (4) بسبب بعض المستجدات الطارئة على الساحة السودانية، انقطعنا عن مواصلة النقاش حول دور منظمات المجتمع المدني في تحقيق التحول الديمقراطي وترسيخ الممارسة الديمقراطية. وللتذكير، فإن نقاشنا هذا يأتي في سياق تناولنا للأسس الرئيسة التي يستند عليها المشروع الوطني النهضوي من أجل بناء الدولة الوطنية الحداثية في السودان، والتي تشمل: الديمقراطية والتعليم والإصلاح الديني وحل قضايا القوميات والتنمية والثقافة. ونحن لا نزال عند محطة الديمقراطية، حيث بدأنا بمناقشتها مفهوماً ونظاماً سياسياً، ثم تطرقنا إلى دور كل من الأحزاب والمؤسسات العسكرية ومنظمات المجتمع المدني في ترسيخ الديمقراطية، ونواصل اليوم ما انقطع من حديثنا حول دور منظمات المجتمع المدني. في المجالات المتعلقة بقضايا المواطن الحياتية، كالصحة والتعليم ودرء الكوارث الطبيعية وغيرها، لازالت منظمات المجتمع المدني السودانية تقدم دروساً في الوطنية والإبداع من خلال مساهماتها المباشرة والملموسة في المجالات المختلفة. وظل العنوان الرئيس لهذه الدروس والمساهمات هو أن شعبنا يطمح إلى حياة تقوم على قيم تعاون حقيقية وليس تجارة رخيصة باسم الفقراء. وأن الوطن بحاجة لمشاركة الجميع للتصدي للقضايا التي توحِّد كل السودانيين بصرف النظر عن لونهم أو دينهم أو لغتهم أو معتقداتهم الفكرية والسياسية. وحتى ينعدل حال العيش في السودان ويصبح ممكناً، وحتى تتحوَّل الحكومة إلى جهاز إداري في خدمة الشعب وليس بقرة حلوب على أكواب البعض، أو سيف مسلَّط على الرقاب، علينا ألا نتقاعس عن التصدي للقضايا اليومية، الحياتية والاجتماعية، وعلينا مواصلة تفجير المبادرات الشعبية. وبالفعل، انبرت منظمات المجتمع المدني السوداني في تدشين عشرات المبادرات التي تصدت لقضايا ومشكلات حياتية حقيقية تمس حياة المواطن بشكل مباشر، مثل بناء وحدات العناية المركزة في المستشفيات، مساعدة المواطنين في تلقي العلاج المناسب في وحدات الطوارئ، ترميم وإصلاح المدارس، درء خطر الفيضانات.. إلى غير ذلك من القضايا المتعلقة فعلاً ومباشرة بحياة المواطن. وفي كل هذه القضايا، كان البون شاسعاً جداً بين الموقف الحكومي العاجز والمتقاعس، والموقف الشعبي بقيادة منظمات المجتمع المدني، وما بين الموقفين تكمن الدهشة والحسرة، ويكمن الغضب والألم. وحتى لا يأتي حديثنا مجرداً، أو عمومياً، نتذكر معاً كارثة السيول والأمطار التي ضربت البلاد، والتي من الممكن أن تتكرر في خريف هذا العام مثلما تكررت في السابق. الموقف الحكومي إبان كارثة السيول والفيضانات، جعل السودانيين، في مواقع التواصل الاجتماعي الإسفيرية، يعيدون إنتاج القصة المنسوبة إلى الملكة ماري أنطوانيت، زوجة لويس السادس عشر ملك فرنسا، عندما ووجهت باحتجاجات الفقراء وعامة الشعب بانعدام الخبز وعدم استطاعتهم لشرائه، فردت بمقولتها المشهورة "إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء..، فلماذا لا يأكلون كعكاً".ولعل ردها المستفز ذاك، كان من ضمن الأسباب التي دفعت برأسها الجميل ليتدحرج تحت مقصلة الثورة الفرنسية. السودانيون في تناولهم لموقف الحكومة تجاه الكارثة، قارنوا ما بين حديث ماري أنطوانيت المستفز وردة فعل عدد من مسؤولي الحكومة تجاه الحدث، وذلك عندما قال أحد المسؤولين: "سنعالج انهيار منازل الفقراء من جراء الأمطار بإصدار قرار يمنع بناء المنازل بالجالوص"..!وكذلك عندما احتج مسؤول آخر مستغرباً ومستنكراً "كيف نعتبر انهيار حائط أو غرفة في منزل كارثة؟". وأيضاً عندما صرخ مسؤول آخر غاضباً "لماذا يبنون منازلهم في مجرى السيل؟"، دون أن يجيب على السؤال المهم، رغم بداهة الإجابة: من الذي أشرف على توزيع الدرجات والقطع السكنية وباع الأراضي للمواطنين في مجرى السيل؟. هل هو الحكومة أم "سمسار" خفي قبض الثمن وهرب إلى الواق واق؟، ولكن إذا كانت زلة لسان الملكة ماري أنطوانيت مبررة ومفهومة أسبابها، فإن ما أتى به مسؤولوا الإنقاذ الخارجين من رحم شعب يعيش حياته بشق الأنفس، لم تكن مجرد زلة لسان لا تغتفر، بل هي عقلية "الخير خنقا" التي عميت بصيرتها عن رؤية الشقاء اليومى للشعب، إلى درجة الاستخفاف بحجم مأساة مواطن المايقوما أو دار السلام أو شرق النيل، وغيرها. أن تخسر المنزل الذي يأويك لا يعني شيء لسيادة المسؤول، وبما أن البيت عبارة عن "أوضتين" فقط ومن الجالوص، فالمسألة لا تستحق كل هذه الضجة! أما الضجة والخسارة الحقيقية فتكون عندما تسقط بيوت الأغنياء المشيَّدة "مسلح"، والتي قطعاً سقوطها لن يكون بسبب الأمطار والسيول! أقل ما يقال عن الموقف الحكومي ذاك هو استعلائه على "الرعية"، وهو يعكس حالة التقوقع التي يعيشها أهل السلطة، كما يعكس بؤس فكرتهم التي لا ترى سوى التمركز حول السلطة. والموقف الحكومي يطرح خطاباً يسعى لنسج محاولة دفاعية استباقية للإلتفاف على أخطاء الحكومة في التعامل مع كارثة الأمطار والسيول المتكررة كل عام. إنها محاولة بائسة للتنكر للمسؤولية والتنصل منها. وحتى اللحظة، نحن لا نعرف كيف ستجيب الحكومة على أسئلة من نوع: كيف تسرَّبت خيم إسكان المنكوبين الذين فقدوا منازلهم، والتي تبرعت بها دول العالم، لتباع في الأسواق لصالح من يسعون للترفيه عن أنفسهم برحلات المخيمات الفاخرة؟ كيف ستساعد الحكومة المنكوبين في إعادة بناء منازلهم في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار مواد البناء؟ وقبل كل ذلك، ماذا ستقول الحكومة في هجرة الأرياف وتطويقها للعاصمة تقرَّباً من الخدمات التي ضنت بها الحكومة على الأقاليم، وهرباً من محرقة الحرب الأهلية؟. أما الموقف الشعبي فقد جاء عظيماً كعادة هذا الشعب في الملمات الكبرى. فقد تدافع الشباب السوداني، وبالآلاف، للتصدي للكارثة معلناً عن تقليد "النفير" الذي هو فعل تشاركي متجذَّر في الثقافة السودانية. تحركت مبادرة "نفير" معلنة عن "برانا برانا نلبي ندائنا"، ومادة يد العون للمتضررين، وبشفافية عالية في مسائل التبرعات والصرف المالي والمهام اليومية المتنوعة، وهو ذات المنوال الذي سارت عليه مبادرة شارع الحوادث وهي تبني غرف العناية المركزة في المستشفيات. مبادرات المجتمع المدني المختلفة، بعثت الأمل في نفوس السودانيين جميعهم، حيث أكدت أنه بإمكاننا أن نتصدى للدفاع عن بعضنا البعض دون أي غطاء رسمي "حكومي" ودون منَّ أو أذى. كما أعلنت هذه المبادرات، ومبادرة نفير أنموذجاً، عن طريقة جديدة في التفكير، تقول بضرورة الفصل بين الواجبات المجتمعية والصراعات السياسية الفوقية في لحظة الانخراط والتلاحم مع الجماهير عند المحن والكوارث، حيث تختفي ذرائع البحث عن غطاء خارجي لمساعدة الناس هاجساً رئيساً، دون تجاهل حقيقة أن العلاقة بين الحكومات والكوارث علاقة لا تنفصم عراها، لأن من صميم مهام وواجبات الحكومات تنظيم شؤون حياة الناس وحمايتهم. وفتحت المبادرات الأبواب لمعالجة أزمة المشاركة المجتمعية ككل، حيث في عهد الإنقاذ، ونتيجة لممارساتها، استحالت حركة السودانيين ومبادراتهم الاجتماعية في النشاط العام دون التورط في مشكلة الاشتباه بكونك شيوعي أو طابور خامس متخابر مع الخارج، تمهيداً لإلغاء إنسانية الإنسان ورميه في غياهب الزنانين أو طرده من العمل الذي يوفر له الحماية الاقتصادية. فالحكومة تفترض أن أي عمل عام يجب أن يمر عبر بوابتها، وإلا اعتبرته معادياً لها، حتى وإن كان بعيداً عن السياسة. لقد أفرز القمع والكبت والإرهاب تحت ظل حكم الإنقاذ ضعف المشاركة الشعبية وغياب المبادرة الجماهيرية، حاصراً الحياة في السودان في الصراع السياسي بين المعارضة والحكومة، ودافعاً بالحراك الاجتماعي الثقافي نحو دائرة الإهمال. وما نشاهده من أعداد مهولة من السودانيين، وخاصة المهنيين، على أبواب الموانئ والمطارات يطرح شح الخيارات أمام الشعب: فهو إما مهاجر أو مغترب أو نصف مهاجر أو مشدود إلى المجابدة اليومية، ولا يجد من يهاتفه أو يرد على "مسكولاته". وهكذا، تخرج مبادرات منظمات المجتمع المدني العديدة والمتنوعة، فاضحة لعجز الحكومة ومعرِّية لخطابها الخارج عن نفس معزولة في جبروتها، بينما الأخيرة ترفع قرون استشعارها، مثلما تشرئب أذناها. فمثل هذه المبادرات خطر داهم على نظام لا يهمه مصير الناس وجغرافية وتاريخ الوطن بقدر ما يهتم لكرسي التسلط. وكلما تتفجر مبادرة، تحاول الحكومة احتوائها، وعندما تفشل تلصق بها التهم والشكوك، في ذات الوقت الذي تحاول فيه أن تلبسها قميصها. بينما تواصل مبادرات منظمات المجتمع المدني سيرها لتجد الترحاب والأحضان من المنكوبين الذين يجيدون الابتسام والتفاؤل وقراءة الشعر، رغم الكارثة وظلم الحكام. لكن، منظمات المجتمع المدني السودانية، لم تحصر نفسها في القضايا الاجتماعية والمعيشية للسودانيين، كما لم تغلق نفسها على مهامها المعروفة في رفع الوعي والقدرات والحماية. فبالإضافة إلى مساهماته المباشرة والملموسة في المجالات المتعلقة بقضايا المواطن الحياتية، لم يقف المجتمع المدني محايداً ولا متفرجاً أو مراقباً إزاء المأزق المأساوي الذي تعيشه بلادنا اليوم، والمرتبط بالممارسة السياسية. بل، وبما تمليه عليه ضمائر وعقول وإنسانية وسودانية مكوناته، بشراً ومؤسسات، واستجابة لنداء الوطن الداعي للوقوف بكل قوة وصلابة موقفاً أخلاقياً وعملياً ملموساً ضد هذه الكارثة، قررت منظمات المجتمع المدني السودانية أن تساهم مع الآخرين، في البحث عن أفضل السبل لحل الأزمة السودانية والخروج بالبلاد إلى بر الأمان. ويأتي قرارها هذا منسجماً مع الحقيقتين اللتين ناقشناهما في مقالاتنا السابقة، حيث تقول الأولى أن العلاقة التكاملية بين الحركة السياسية السودانية والمنظمات السودانية الطوعية غير الحكومية، تشكل بعداً مهماً في السودان لا يمكن تجاوزه. فهذه المنظمات، وبحكم انخراطها المباشر في النضال ضد البطالة والفقر ومن أجل حقوق الإنسان ورفع الوعي والقدرات وحقوق المرأة...الخ، تساهم، بشكل أو بآخر، في التغيير الاجتماعي، وتحتل مساحة معتبرة في مفهوم التقدم وعملية إعادة بناء الوطن، مما يتطلب شكلاً من أشكال الصلة المتنوعة بينها وبين الأحزاب وسائر مكونات الحركة السياسية السودانية. وتشير الحقيقة الثانية إلى أن المجتمع المدني السوداني يمثل ضلعاً رئيساً وأساسياً في بلورة وصياغة رؤى التغيير وأهدافه الإستراتيجية، وفي كل آليات ووسائل التغيير السلمية. وإذ تتعامل منظمات المجتمع المدني السودانية مع واقع الصراع المدني والمسلح من مبدأ الالتزام إزاء القطاعات المدنية التي تعاني مباشرةً، ومن منطلق الضلوع المباشر في بلورة الرؤى للخروج بالبلاد من دائرة الأزمة، فيصبح في مقدمة أولويات مهامها التقدم برؤية موحدة واضحة تساهم في تحقيق اختراق لمعالجة جذورالأزمة السودانية. وهي تساهم بهذه الرؤية بوصفها ضلعاً أساسياً ورئيساً، وليس مجرد تابع لأي طرف من الأطراف، كما أن مساهماتها لا تأتي بديلاً لمساهمات الأطراف الأخرى، وإنما مكملة لها. ولأسباب واضحة ومعلومة، تتعلق بطبيعة تكوينه وفلسفة عمله والمجال الحيوي لحركته، فإن المجتمع المدني السوداني يتبنى الحل السياسي السلمي المتفاوض عليه للأزمة السودانية، باعتباره السبيل الأفضل لتجاوز الكارثة التي تعيشها البلاد، فهو الذي يوقف سفك الدماء ويجنب الوطن الدمار. وخلال العقود الماضية من تاريخ البلاد وتاريخ الأزمة الوطنية العامة، تقدمت معظم، إن لم يكن كل، منظمات المجتمع المدني السودانية بمبادرات ومساهمات تبحث في جوهر مسببات الأزمة السودانية، وتقترح حلولاً لها. وسنتعرض لهذه المساهمات في مقالاتنا القادمة. (نواصل) د. الشفيع خضر سعيد