يشهد المسرح السياسي السوداني حاليًا على صعيده السياسي، حراكًا متصاعدًا وتحركات ماراثونية وحماسًا لافتًا على الصعيدين المحلي والإقليمي، لجهة إيجاد تسوية سياسية للخلافات التي وُصفت بأنها عميقة بين شطري الحركة الإسلامية السودانية التي استولت على السلطة بالبلاد بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي دبّرة زعيم الحركة الدكتور حسن الترابي ونفذه العميد آنذاك عمر البشير وهو الانقلاب الذي أطاح حكومة الصادق المهدي في الثلاثين من يونيو من العام .. التحركات الحالية هي عبارة عن جهود داخلية تقوم بها كيانات شبابية وأخرى تقوم بها بعض الشخصيات من فئة الشيوخ وتتزامن هذه المساعي الداخلية مع أخرى خارجية تتبناها شخصيات عربية إسلامية في كل من مصر، وليبيا وتونس، وهي شخصيات فتح شهيتها لإصلاح ذات البين السوداني النجاح الهائل الذي حققته ثورات الربيع العربي الذي أوصل تنظيمات إسلامية إلى سدة الحكم في بعض تلك البلدان... مبادرات ماتت والقاتل مجهول ومن المفيد هنا أن نشير ولو عرضًا إلى أهم وأبرز المبادرات والمساعي التي نشطت لتسوية الخلاف بين شيخ الحركة الإسلامية السودانية، وتلاميذه، وهي مبادرات ضُرب على بعضها سياج من التكتم، فعلي سبيل المثال وعلى الصعيد الخارجي، كانت أبرز المبادرات: مبادرة الشيخ يوسف القرضاوي، ومبادرة الشيخ عبد المجيد الزنداني، ومبادرة الشيخ حمد بن خليفة آل ثان أمير دولة قطر، ثم مبادرة أخرى تداعى لها عدد من قيادات الإخوان المسلمين، في الأردن، ومصر وتونس، وأخيرًا المبادرة الإسلامية العربية الحالية «مصر، تونس، ليبيا»... على الصعيد الداخلي شهدت الخلافات: مبادرة لجنة رأب الصدع الأولى والثانية بزعامة البروفيسور إبراهيم علي، ومبادرات أخرى سرية ومعلنة قام بها نفر من قيادات الحركة الإسلامية، أمثال البروفيسور حسن مكي، وأحمد عبد الرحمن، والشيخ الفادني، والشيخ عباس الخضرإلى جانب مبادرة القيادات الوسيطة بنهر النيل، وأخيرًا ما سُميت بمبادرة المجاهدين، أو المبادرة الشاملة التي نشرت نصها الزميلة «الأهرام اليوم» خلال الأيام القليلة الماضية... غير أن المدهش أن هذه المبادرات التي بلغت في مجملها «12» مبادرة، لم تنجح أيٌّ منها في إحراز أي تقدم، فكان الإجهاض المصير المحتوم لجميعها، قبل أن تتخّلق ويكسو عظمها لحم، باستثناء تلك التي تبدو الآن مضغة مخلّقة وغير مخلّقة.... والسؤال المشروع هنا والذي يلح بإصرار ويطرح نفسه بقوة هو: من وراء تعويق الجهود والمساعي التي تهدف إلى تسوية صراع السلطة بين «القصر والمنشية» وهو صراع يميل الكثيرون إلى إختزاله في شخصين هما الترابي والبشير. وبإلقاء نظرة فاحصة لتداعيات الخلاف داخل الحركة الإسلامية السودانية بعد «10» أعوام من الحكم الانفرادي تحت هيمنة «المؤتمر الوطني» الذي ابتلع الحركة الإسلامية بعد أن سحب البساط من تحت أقدامها، وبالنظر إلى اتجاهات ذلك الخلاف وأسبابه، والظروف التي أحاطت به آنذاك على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، وبقراءة نتائجه على ذات الأصعدة وما انتهى إليه من مفاصلة شهيرة وتصعيد شرس وخطير، بين طرفي الصراع انتهى بزعيم الحركة الإسلامية السودانية والأب الروحي للتنظيم «الترابي»، عرّاب الإنقاذ، إلى الاعتقال «7» مرات على فترات متفرقة، بلغت أطولها «3» سنوات في الفترة من فبراير «2001» وحتى أكتوبر «2004»، فيما بلغت أقصرها «4» أشهر، وبالوقوف على الجهود المبذولة على الأصعدة العربية والإسلامية والداخلية، السرية منها والعلنية لتسوية الخلافات، والعقبات التي اعترت سير مساعي الصلح بين معسكري «القصر، والمنشية».. بإلقاء نظرة فاحصة وشاملة لكل الذي سبقت الإشارة اليه، واستنادًا إلى معطيات الصراع واهدافه وأسبابه وبناء على منهج تحليلي محايد وموضوعي نخلص الى الملاحظات والحقائق التالية: أولا: هناك جهود ومبادرات ومساعٍ، داخلية وخارجية جادة وصادقة لتسوية الصراع بين المعسكرين، تم إجهاضها من قبل مجموعة متنفذة داخل معسكر السلطة، ترى مصالحها من خلال استمرار سحب الخلاف، ومناخات التوتر والتصعيد، وما كان لهذه المجموعة أن تتمدد، وتدير مصالحها الذاتية في ظل مناخ معافى. ثانيًا: جهود الإصلاح الداخلية والخارجية، أيضًا اصطدمت، بشعور الترابي بمرارة الذي جرى له ورغبته في الانتقام من تلاميذه، حيث شكّل هول الصدمة العنيفة التي تعرض لها الترابي عقبة كأداء أمام لجان رأب الصدع، إذ لم يكن الترابي يتوقع أويتحسب لما جرى له، ولهذا عاش زمنًا طويلاً تحت تأثير الصفعة التي تلقاها من «أناس» يرى أنه صنعهم، وتنكروا له، وهو أمر كان له تأثيره السلبي علي تعويق التسوية. ثالثًا: تأثرت مساعي الصلح أيضًا بالقيل والقال، إذ بدا واضحًا أن هناك عناصر داخل معسكر السلطة تأتي سرًا للترابي تحدثه بلغة «اعتذارية تبريرية» اعتذارية عن مواقفها المعلنة المنحازة لمعسكر القصر، وتبريرية تبرر انحيازها لمعسكر السلطة بظروف المعيشة، والخوف من سطوة السلطة، وتقدم بين ثنايا اللغة الاعتذارية التبريرية «معلومات» تعمل على زيادة التوتر والتصعيد، وتعمل على توقير صدر الترابي، الى جانب هذه المجموعة هناك أخرى تسعى دون هدف معين الى زيادة التوتر، أو أنها تسعى الى التخفيف على «الشيخ المكلوم» فتخطئ الهدف لتجد نفسها أشعلت نيران الغضب وغذت بركان المرارات لدى الترابي. رابعًا: تلاحظ أيضًا أنه وفي أثناء الحوار الذي يجري من حين الى آخر بين «الوطني» و«الشعبي» قبل أن يقرر الأخير وقف الحوار مع «إخوان الأمس» وفي وقت يتقدم فيه الحوار بين الطرفين تخرج تصريحات غير مناسبة من جهات حكومية تضع الحوار على حافة الانهيار في أحسن الأحوال، وتعليقه في أسوئها، وتبدو الصورة كأنما الهدف هو نسف التقدم الذي حدث. خامسًا: قرار الهيئة القيادية للمؤتمر الشعبي بوقف الحوار والسعي لإسقاط النظام، شكّل عقبة عصية وقطع الطريق بشكل كبير، أمام مساعي الصلح.