لا يمكن تفسير زيارة السيد رئيس جمهورية جنوب السودان للخرطوم اليوم، خارج سياق التطورات الراهنة في الدولة الوليدة، وتعقيدات العلاقة المأزومة مع جمهورية السودان التي كانت الدولة الأم قبل ذهاب الجنوب منفصلاً، كما لا يمكن معرفة خفايا الزيارة وأبعادها دون الإلمام الدقيق بتفاصيل النصائح الأمريكية والأوروبية لقيادة هذه الدولة الجديدة في القارة الإفريقية، قبل أن تسحقها الحروب الداخلية والجوع والجهل والمرض، فواقع جمهورية جنوب السودان معروف، وفشلت الحركة الشعبية وهي الحاكمة والممسكة بكل شيء، في أن تقدم مشروعاً سياسياً وتنموياً يلبي طموحات شعب جنوب السودان وتطلعاته إلى الأمن والسلام والرفاه والنهضة وتوفر الخدمات، والأهم من ذلك المستقبل نفسه، إذ يشعر مواطن الجنوب الآن أن مستقبله صار في كف عفريت. ودهمت دولة الجنوب عوامل فناء سريعة في أقل من شهور على إعلان قيامها، فالحروبات والصراعات الداخلية لم تتوقف، وشبح المجاعة يخيِّم عليها، وأنشب الفقر أظافره ومخالبه في لحم مواطنها، وطحن الغلاء الفاحش كل فئات المجتمع، وسط فساد كبير لا يمكن تصوره من حركة كانت تدِّعي الثورية والنضال، فضلاً عن قلة خبرة إدارية وسياسية وعدم كفاءة في بناء وتحريك دولاب الدولة الوليدة. ومع ذلك لم تحترم هذه الدولة، جارها الأكبر السودان، وأخذتها العزة بالإثم وغلبت عليها روح التآمر والكيد والحقد، فعمدت إلى إشعال النار في جنوب كردفان والنيل الأزرق بواسطة عملائها الذين تركتهم وراءها، وفق تخطيط خبيث لضرب السودان في مقتل وإعاقة مسيره وتقدمه. وما الحرب التي تدور الآن في هاتين الولايتين إلا صنيعة حكومة الجنوب، وتقوم بإدارتها ودعم منسوبي جيشها الشعبي في السودان بالعتاد الحربي ومرتبات الجنود، ظناً منها أن ذلك سيضعف بلدنا ويرهقه، ويكون لقمة سائغة لشذاذ الآفاق الذين أعدتهم الحركة الشعبية وجهزتهم .. ولكن هيهات. كذلك اتخذت حكومة الجنوب وهي منتشية بالانفصال، سياسات رعناء حول البترول وكيفية التعامل معه، فالسودان هو الممر المناسب له، ويملك البنيات التحتية لتصديره ونقله وتكريره، ورفضت دولة الجنوب التوصل لاتفاق حوله، وظلت تماطل وتتذرع بحجج واهية، الغرض منها اللعب على الوقت حتى تضيق الحال في السودان ويرضخ لمطالبها، ويقبل بأية شروط تُعرض عليه. ولم تكن جوبا والجهات الدولية التي تتحالف معها، تعلم أن الخرطوم عصيَّة على الترويض، حين فكرت في محاربتها والتآمر عليها ودعم معارضيها والتضييق عليها، فما استطاع الحلو ولا مالك عقار ولا حركات دارفور المسلحة التي تُدعم من جوبا وتوجد قياداتها وعناصرها ما بين كمبالا وعاصمة جنوب السودان، وتفتح لهم معسكرات في بحر الغزال، ما استطاعت أن تفعل شيئاً تُردي به السودان إلى جحيم الانهيار.. فالخرطوم ظلت تكظم الغيظ وتتعامل بالعفو والتسامح، وهي تعرف متى وأين يمكن الرد على الإساءة إن أرادت، وتعرف ماذا تفعل إن قررت معاملة دولة الجنوب بالمثل، فمعارضو حكومة الجنوب معروفون وموجودون، ودعمهم أسهل من نثر الحَبِّ للطيور في الفلاة الواسعة، وبقليل من الدعم يمكن أن يُسقطوا أية سلطة في الجنوب، أو يجعلوها جالسة على فوهات جهنم. وتعرف الخرطوم ماذا يعني إغلاق حدودها؟! فإذا أرادت خنق الجنوب واقتصاده ومعيشته وحياته فإنها تستطيع، لكنها لم تعامل الجنوب حتى الآن بالمثل. وعلى السيد سلفا كير رئيس حكومة جمهورية جنوب السودان، أن يفهم ما الذي يمكن أن توصله إليه اللعبة الخطرة التي تلعبها حكومته وحركته الشعبية. وسيجد ترحيباً كبيراً في الخرطوم، لكن اليد التي تصافح يمكن أن تصفع أيضاً. رسالة الخرطوم واضحة.. إن أرادوا علاقات جيدة معنا لا ضَيْرَ، لكن لن نسمح للحركة الشعبية أن تلعب بالنار وتشعلها في أطراف بلادنا ونجلس لنتفرج عليها.. فقد انتهى عهد المجاملة والصبر و «الدَغْمَسَة»!!