ومن وسائل الإصلاح المهمة والفاعلة توافق القوى السياسية على التبادل السلمي للسلطة، وهي قيمة عظيمة قد يظن كثير من الناس أنها من مخرجات تجارب الحكم في أمريكا والغرب والصواب ليس كذلك، إنما هي من سمات الحكم الراشد التي جاءت في طيات النظرية الكلية لنظام الحكم في الإسلام، الذي أقر أول سمة ضامنة لهذا الاستقرار وهي «إنِ الحكم إلاّ لله» وقاعدة «يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء» وهذا التوجيه الرباني يرشدنا إلى أن التنازع والاقتتال والانقلاب العسكري والعنف والعمل المسلح العسكري وبما أنها وسائل مستهجنة ومرفوضة في المجتمعات الراقية المتحضرة هي نفسها أيضاً غير قادرة على تثبيت دعائم الحكم في المجتمعات المتخلفة وإن أوصلت أنصارها إلى سدة الحكم وأبواب القصور، فالأمر لله من قبل ومن بعد. الغرب الكافر مثلاً في اليونان وأمريكا الذي يعتقد بعضهم أنه مؤسس الديمقراطيات في العالم هم في الحقيقة وصلوا إلى هذه النماذج بعد مآسٍ وكوارث زعزعت مجتمعاتهم في القرون الوسطى، حيث هلك عشرات الآلاف بسبب الحروب الأهلية الطاحنة التي غيرت الطبيعة الديمغرافية في كثيرٍ من بلدانهم، فهم من رحم هذه المآسي ظهرت حاجتهم إلى السلام والأمان الاجتماعي والنماء الاقتصادي، فهداهم تفكيرهم أنه لا سلام اجتماعي ولا نماء اقتصادي ولا أمان في ظل الحروب الأهلية والنزاع حول السلطة والملك إلاّ إذا توفر الاستقرار السياسي، هكذا قادتهم الحاجة الملحة إلى التفكير.. ولما كان هذا التفكير لا بد له من نموذج سابق يمثل الأساس في التأصيل والمقارنة ذهبوا مرة أخرى دون حرج إلى ميراث الإسلام الراسخ في ذلك، حيث وجدوا أن القرآن يدعو دعوات واضحات الدلالة إلى طاعة القائد والأمير الذي يُختار من القوم يسوسهم بعدالة ونزاهة ومرجعيته في ذلك دستور متفق عليه، وهذه الجماعة مطلوب منها طاعة هذا الأمير في المعروف ما استقام هو على احترام الدستور، فإن خالفه عُزل، هذا النمط من وسائل الحكم الراشد في الإسلام هو الأساس الذي قامت عليه الديمقراطيات الحديثة في الغرب وقد بذلوا مجهوداً محترماً في تطويره. ومن الوسائل الأهم المعتبرة نحو استقرار سياسي وهي في إطار التبادل السلمي للسلطة وسيلة صناديق الاقتراع «الانتخابات» حيث لا بديل نموذجي أفضل منها حتى الآن بعد تحديات الدولة المعاصرة التي صارت من موازين القوة فيها منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية ومفاهيم المواطنة والمدنية، وذلك لاتساع دائرة مفهوم الدولة نفسها اتساعاً على مستوى أفقي وطائفي وجهوي وقبلي بل ومِلِّي أيضاً. إذا كانت الانتخابات وسيلة ضرورية بهذا الحد بالغ الأثر وباعتبارها فكرة تفرض شروط التسوية والإقناع للأطراف كافة، فإن هذا يفرض على الأطراف جميعاً أن يعملوا معاً أن تكن حرة ونزيهة وشفافة ينتفي عنها سلوك الغش والتزوير والإرهاب الفكري حيث إنه سلوك سافل يقعد بالعملية الديمقراطية في القاع السحيق، ولا يمكن أن يتهيأ المكان والزمان لإقامة انتخابات حرة ونزيهة إلا إذا توفر الاستقرار السياسي الذي يبني الثقة بين أطراف القوى السياسية الوطنية وقطعاً لن يتوفر الاستقرار السياسي في غياب الدستور الدائم الذي هو صمام أمان للوحدة الوطنية وحراسة ممسكات الأمن القومي والهوية الوطنية الجامعة التي تضمن للوطن سلامته ونهضته. إن «الإصلاح» وإن كان شيئاً شاملاً إلاّ أنه عند إطلاق مصطلح «الإصلاح» يسبق إلى الذهن مصطلح الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، والسبب في ذلك أن الإصلاح السياسي يقود إلى إصلاح اقتصادي، حيث إن سلطان الإصلاح السياسي يحارب الفساد الإداري والمالي ويقوي مركز القضاء والعدالة وملاحقة كل من يعتدي على المال العام مهما كان مركزه، وهذا لا يتوفر إلاّ في أجواء الاستقرار السياسي الذي يقوي الإرادة السياسية في الدولة ويفرض هيبتها. إن من واجب الأحزاب السياسية أن تسهم في تنوير الشعب والمشاركة الفاعلة في تماسك المجتمع وبناء مهارات الحوار داخل المجتمع من خلال ما تقدمه هي نفسها من تجارب ناضجة من داخلها، وهذا دور لا يمكن أن تقوم به الأحزاب إلاّ إذا توفرت لها القيادة المدركة لأبعاد هذه الفكرة الحيوية ليبقى الإصلاح ضرورة حياة لا بد منها وإن طال السفر. إن وجود نظام سياسي راشد في إدارة الدولة سواء أكان من حزب سياسي واحد أو اتحاد أحزاب سياسية «ائتلاف» يفضح المعارضة غير الراشدة أمام الشعب، أما وجود نظام سياسي فاسد فهذا يقوي موقف المعارضة ويظهر محاسنها، ووجود معارضة فاسدة ونظام حكم فاسد يضيع البلد والشعب، غير أن النموذج الأمثل هو وجود نظام سياسي صالح راشد عادل، ووجود معارضة وطنية راشدة حكيمة، هذا هو النموذج المطلوب لتبقى المنافسة لخدمة الشعب وبناء البلد وليس منفعة الذات.