في منتصف التسعينات تم تعيين أحد المسؤولين من خارج التنظيم الاسلامي في موقع قيادي بوزارة الثقافة ، وعند أول زيارة له لكلية الفنون الجميلة بجامعة السودان، أراد أن يبهر الحاكمين بإلتزامه بافكار التنظيم، فأمر بتكسير نماذج لأشهر التماثيل والمنحوتات العالمية كانت مشاريع تخرج لطلاب الكلية ، وعندما سمع به الوزير عبد الباسط سبدرات استدعاه وأخبره بأن هذا التوجه لا يمثلنا، وكان أحد الوزراء الانقاذيين حاضرا في الجلسة فخاطب الشخص (المزايد) بلهجة حادة قائلا : إنت اسلامي اكتر مننا ؟؟ ما لفت نظري اليوم مع تداول صور لتمثال (الجندي العائد) والذي تم نصبه اليوم بشارع النيل – أم درمان،. هو انتفاضة بعض الاسلاميين (الأكتر إسلامية من الاسلاميين) ضد فكرة الترميز أو الأيقنة التي يمثلها التمثال، فقد هاجت وماجت الوسائط بالجدل ، وسبب الجدل كان للخلط الذي حدث بين التمثال وصورة الرئيس البرهان وهو يواسي سيدة في معسكر نازحي الفاشر بمدينة الدبة ، فشبهات المزايدة العقائدية حول التمثال كانت الأقل حظا في التداول مقارنة بالنقد السياسي الذي تمحور حول نقد المبالغة في تعظيم قائد الجيش لدرجة وضع تمثال له ، وهي دعاية هوجاء مبنية على فرضية خاطئة وهي أن التمثال يخص البرهان وهو ليس كذلك .. التمثال الذي أثار جدلاً واسعاً ، لم ينل حقه من القراءة الموضوعية ، حيث طغت الانتقادات السياسية والعقائدية على أي نقاش جاد حول قيمته الفنية والرمزية ، فالتمثال يمثل جنديا عائدا من ساحات القتال ويعانق أمه في لحظة نادرة تحمل خلفيات عدة تتمثل في البطولة والاستعداد والأمومة والسلام ، فالفكرة الأساسية هنا لا تتمحور حول شخصية بعينها ، بل تعبر عن كل جندي عائد من ساحة المعركة منتصرا إلى حضن أمه ، وخروجه كمقاتل من عالم الموت إلى حضن الحياة والانسانية .. لقد تم تداول قصة هذا التمثال خارج سياقها الحقيقي، فبدلاً من مناقشة قيمته الفنية أو رمزيته الاجتماعية ، تحول الجدل حول ما إذا كان يمثل الرئيس عبد الفتاح البرهان أم لا ، أو حول شرعية التماثيل من الأساس في الثقافة الإسلامية، وهذا ما حول النقاش من كونه جدل ثقافي إلى سجال سياسي وعقائدي،. ففكرة (الجندي العائد) أو (الجندي المجهول) ليست جديدة في الفن العالمي وهي تجربة انسانية منتهجة في كثير من الدول ، فبدلا من الاستغراق في الجدل الغير موضوعي عن من يستحق أن ينصب له تمثال، كان يمكن طرح أسئلة نقدية حقيقية حول هل استطاع التمثال نقل المشاعر بشكل مؤثر؟ وهل يستوفي المعايير الجمالية والفنية والتأثير البصري ؟ وهل موقع التمثال مناسب لقراءته كرمز وطني ؟ وهل يحقق التمثال الرمزية في أن هناك رابطا قويا بين الجيش والمجتمع ؟ وغير ذلك من الأسئلة .. عليه فان تمثال (الجندي العائد) يجب أن تتم قراءته بلغة الفن قبل لغة السياسة ، وبمنطق الرمزية قبل الانتماءات الضيقة ، لأن النقد الفني يمكن أن يثري المشهد العام ، بينما النقد السياسي يحوّل كل شيء إلى خصومة عقيمة وعقيمة ، عليه يجب أن نفرق بين الرمز والشخص، وبين العمل الفني والوضع السياسي، وذلك يقودنا لأن نقدر القيمة الجمالية والرمزية للأعمال الفنية ، بغض النظر عن مواقفنا السياسية أو توجهاتنا العقدية .. يوسف عمارة أبوسن 22 نوفمبر 2025 إنضم لقناة النيلين على واتساب Promotion Content بعد مماتك اجعل لك أثر في مكة سقيا المعتمرين في أطهر بقاع الأرض ورّث مصحفا من جوار الكعبة المشرفة