[email protected] نظريا فان الدولة المدنية لا تتخذ مواقف مسبقة ومناوئة للقيم والنظم والقوانين الدينية ، لأنها تقوم على قيم إنسانية أساسية محفورة في نظامها الأساسي، في مقدمتها التسامح واحترام الحريات الفردية والعامة ، وتنظيم خلاب لتعدد وتنوع المجتمع ، ونظرا لكون القوانين الدينية متنافرة في معظم الأحيان فإنها ( أي الدولة المدنية ) توكل أمر تطبيقها إلى الفرد والجماعات المحلية ، حتى تظل مؤسسة الدولة بعيدة كل البعد عن أية تجاذبات أو تعاركات ، ولتبقى عصبة كافة أبناء شعبها من دون تمييز أو إقصاء. في بريطانيا مثلا فان معظم البريطانيين يعتنقون الديانة المسيحية ، حتى أن الملكة اليزبت الثانية هي رئيسة للكنيسة الأنجليكانية ، بيد أن تطبيق القوانين الدينية المسيحية وغيرها من الديانات موكول إلى معتنقيها ولا دخل للدولة في تطبيقها وإلزام الأفراد بها ، فإذا ما كانت المشروبات الروحية محرمة عند مذهب مسيحي ما وعند المسلمين فان أمر إنفاذ الحرمة موكولا للفرد لا إلى الدولة، فان شاء التزم بها وإن شاء لم يلتزم ، وان كان ممارسة الجنس في غير مؤسسة الزواج محرمة في المسيحية واليهودية والإسلام فان أمر تحريمه من شئون سيادة الفرد على نفسه ، وهكذا دواليك. إن الدولة المدنية ليس من مسؤوليتها إدخال الناس الجنة! لأنها مؤسسة انشات لإدارة الشئون الدنيوية الزمنية المهمة والملحة ، وقضاء حاجات المجتمع ، ووجودها ضروري ولا غنى عنه لأي مجتمع أنساني ، لأنها تمثل القوة الشرعية القادرة على رعاية الشئون وإدارة الأمور ، ومن غيرها تصبح حياة الناس فوضى رهيبة ، أما أديانهم ومعتقداتهم وأنماط عيشهم فهي لهم يشكلونها وفقا لما يرونه ، من دون تدخل من قبل الدولة إلا فيما يحفظ الشأن العام من الضعف والوهن. إن الإسلام ( والمسيحية واليهودية وغيرها ) دين الشعب لا دين الدولة، فالدولة منشاة لا دين لها ، وملقى على عاتقها مهام وواجبات محددة ومؤطرة لا يجوز لها تجاوزها إلا بما يحفظ الصالح العام ، فالدولة مؤسسة تقتصر مهمتها على تنظيم وإدارة المجتمع ، وتستند على سنن ونواميس خاصة بها ، بعيدا عن معتقدات الناس وطلاسم العقائد التي تعتنقها، وان كانت الدولة مؤسسة لا دين لها فان من أهم واجباتها تجاه مواطنيها هو تنظيم الشئون الدينية لشعبها ، واحترام قوانينها العامة لقيمهم الروحية والأخلاقية ، وحماية حقوقهم في حرية العبادة والاعتقاد والتدين وتطبيق الأنماط الدينية والاجتماعية ، مهما كانت متناقضة ومتضاربة، حيث إن وظيفة الدولة الأساسية تكمن في توفير أجواء خلاقة من الحرية لكافة مواطنيها ، تضمن عدم تضمن عدم تحول تناقض الأنماط إلى صراعات دينية أو مذهبية وبقائها في إطار التعايش الاجتماعي والسلم الأهلي . إن الدولة المدنية توفر لمواطنيها أجواء العمل المناسبة في شهر رمضان وتضمن لهم حقهم في التوقف عن أداء أعمالهم لأداء الصلوات الخمس ، وتمنحهم إجازات مدفوعة الراتب لإحياء أعيادهم الدينية ، في الغرب هناك إجازة لعيد الفصح وهو عيد ديني ، وعيد رأس السنة ليس سوى عيد ديني بمناسبة مولد السيد المسيح ، وفي بعض المجتمعات الغربية قرأت عن عرف ساري في المستشفيات ، حيث لا يقوم الأطباء بكتابة أوامر خروج المرضى أيام الجمع ، احتراما لتقليد اجتماعي يقضي بعدم خروج المريض من المستشفى في هذا اليوم حتى لو شفي من مرضه، وكثير ما سمعنا من السياح العرب في بعض الدول الأوربية حول احترام المكاتب السياحية لقوانينهم الدينية فيما يتعلق بالأطعمة والمشروبات وتوفيرها الأطعمة الحلال ، وسمعت عن منح الطلاب المسلمين في الجامعات الأوربية رخصة لأداء الصلوات ، ومنحهم وقتا لتناول طعام الإفطار في رمضان . من ناحية أخرى فان الكثير من القوانين الدينية في الإسلام متعلقة بالفرد لا المجتمع كشخصية جماعية معترف بها ، حتى في الأحكام الفقهية ذات البعد الجمعي، فمن أبواب الطهارة والصلاة والوضوء والصيام والحج والمعاملات المختلفة ، نلاحظ أنها جميعا أحكام فردية لا جماعية، وفي أبواب الحرب نجد أن وجوب الدفاع عن المجتمع كتكليف يقع على عاتق الفرد في المقام الأول ، من جانب آخر فان غالبية الأحكام الفقهية التي يقول بها الفقهاء استنباطية اجتهادية ظنية تخمينية، وليست أحكام إلهية سماوية محكمة، وحتى الأحكام التي تعد إلهية فإنها متعلقة بالفرد بما هو فرد ، وليست أحكام عامة كالصلاة والصيام والحج والزكاة والحجاب ، أما أحكام الحدود فان ثمة أراء لفقهاء من مختلف المذاهب لا ترى حقيقة كونها من ثوابت الشريعة، فمثلا قطع اليد ، قرأت لمجتهد من الشيعة يقول بان قطع اليد الوارد في القران ليس المقصود منه قطع اليد المتبادر إلى الدهن وإنما منع السارق من إعادة فعله المتمثل بالسرقة، وان الأخبار الواردة عن النبي في قطعه يد السارق أخبار أحاد لا يعمل بها، وهناك من لا يرى حكم الرجم باعتباره لم يذكر في القران الكريم. إن الدولة المدنية الحقيقية تمنح الفرد الحرية الواسعة في ممارسة نمطه الديني والاجتماعي من دون تضييق أو تهميش ، حتى انه في بريطانيا ثمة محاكم دينية خاصة بالمسلمين واليهود يرجعون إليها في أحوالهم الشخصية ، حتى بالنسبة للزواج المتعدد في الدول الغربية، فانه متاح في إطار هامش الحرية الاجتماعية وان كان محظورا من الناحية القانونية ، كل ما في الأمر انه زواج غير معترف به حكوميا، إلا إن للأسرة المسلمة مطلق الحق في ممارسة أسلوب حياتها من تدخل من قبل السلطات ما دام ذلك بالرضا والتوافق، أتذكر انه في الولاياتالمتحدة طائفة مسيحية تجيز الزواج المتعدد فترى الرجل منهم يتزوج بالمرأة وأختها ، السلطات الأمريكية من جانبها تعتبرها علاقة حرة بينما يعتبرها أبناء هذه الطائفة علاقة شرعية . إن الدولة المدنية من وجهة نظري هو ما يتحتم على الشعوب العربية الاتجاه إليه بعد الربيع العربي ، وإلا فإنها ستخرج من دكتاتورية الأنظمة الفاشية إلى دكتاتورية الأحزاب الدينية ، التي ستحاول فرض وصايتها على المجتمع باسم الله والقران ، وستعيد إحياء الدكتاتوريات العربية بصور أخرى ، فان اختارت الشعوب العربية الحكم الديني فلا تلومن إلا أنفسها، وليس لها أن تسال بعد ذلك عن حرياتها وحقوقها ، ولها في طالبان أفغانستان ونظام المحاكم الإسلامية الصومالية ومعانة الصومال اليوم من حركة الشباب والجبهة الإسلامية الحاكمة في الخرطوم الذي انقسم السودان في عهده إلى دولتين والنظام الديني في إيران الذي يحظر على مواطنيه اقتناء جهاز استقبال القنوات الفضائية ! ويحجب مواقع الفيسبوك وتويتر ويوتيوب! وأكثر من 7 ملايين موقع انترنت ! عبرة وعظة، والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه ! إن الشعوب العربية اليوم أمام مفترق طريق ، فإما الدولة المدنية الدستورية ، وإما الدولة الدينية التولتارية ، إما الحرية والديمقراطية وإما العودة إلى الاستبداد وحكم الفرد والحزب الشمولية ، فماذا ستختار شعوبنا العربية يا ترى ؟