فى كتابة الممتع ( الحباب ملوك البحر ) للدكتور ادريس ابراهيم جميل ، استوقفتنى عبارة البحر فى العنوان ، فقلت ما الذى منع الدكتور ، من ان يسبق كلمة البحر بالبر ، ليصير العنوان ، ملوك البر والبحر ؟ . عليه ظللت ابحث عن علاقة الحباب بالبحر ، فلم أجدها بين أسطر سفره علماً بأن علاقة البجة عموماً بالبحر ، شبه معدومة ، فهم قومُُُ رعاة ، لايركبون البحر الا اضطراراً ، ولا يأكلون من خيراته إلا لماماً ، بل لم أجد أثراً يذكر للبحر فى ادبهم . لكن يبقى الدكتور شعلة أضاءات مع غيرها ، بعضاً من مسالك البجة عبر التاريخ ، ذلك التاريخ الذى اهتم به القليل من رحالة البجة ، والكثير من الرحالة الأغراب ، حين افاضوا فى وصفهم شعوب المنطقة ، بحقائق تكتنفها بعد الخيالات السماعية ، مع إشارات لحالات الأستنفار بينهم ، دفاعاً عن العرض والأرض . هذا مادفع المؤلف ، مستغلاً علميته ، مشمراً عن ساعد الجد ، لرصد الكثير مما هو مخالف فى اسفار الأقدمين للواقع البجاوي ، وتصدى له بنجاح ، فكان مقنعاً قاطعاً فى تفنيداته واستنتاجاته ، بعد تقصيات دقيقة ، بيد أن هناك من أبناء البجة ، من يرون ان جرأه الدكتور جميل ، بالكتابة عن الحباب كقبيلة ، وهى فى حقيقتها أرض ، يعد مخالفة للواقع ، وتجهيل للقارئ الملم ، بتاريخ المنطقة ، ومسميات قراها ومدنها وجبالها وأوديتها ، قبل نزول جدهم أسقدى من المرتفعات ، على كل انا هنا لن أشغل نفسى بما أختلف عليه مع المؤلف ، سواء كان ذلك من أفراد من قبيلته ، أو من سكان المنطقة من قبائل بنى عامر وغيرهم ، فلتلك الخلافات من هم أعلم منى بشأنها ، ولكنى انوه باعجاب الى الجهد المقدر ، الذى بُذل من المؤلف ، من أجل اضاءات كما أسلفت فى تاريخ البجة . كان آباؤنا ومن قبلهم أجدادنا ، يطلقون على لغتنا - بنى عامر وحباب – ( هاسايت ) ، الا ان مسمى هاسايت ، انحصر تماما اليوم ، إذ لم يعد استخدامه ، إلا من قبِل قبائل البداوييت ، ومن دار فلكهم لغة . ثم برز فى أوساط شرقنا مسمى ( تجرى ) ، فنال حظاً وافراً من الأستخدام ، حتى رسخ ، ولكنى شخصياً كنت استخدم عبارة لغة بنى عامر فى احاديثى وكتاباتى ، بدلاً عن هاسايت ، وهذا لايعنى أننى انكر هذا او ذاك ، ولكن ربما لأنها لغة مجتمعى ، فهو الأقدم بلاشك فى أرض البجة . الدكتور ادريس جميل ، استخدم عبارة اللغة الحبابية ، كثيراً فى مؤلفه ، كما تناول مواقف بعينها بشئ من الحدة ، فهو رجل مصادم ، حتى جر عليه ذاك الاستخدام والتناول ، كثيراً من السخط ، وكان بأمكانه الابتعاد عما يثير الآخرين ، فيما خطه يراعه فى هذا السفر ، فهو اكبر من ان يترك مساحة للنيل من جهده ، لكن بالعودة الى بحثه المنشور بجريدة الخرطوم فى العام 1995 م ، ويقول : ان لفظ البجة ، ليس لها أى معنى فى لغة التبداوى ، ولا فى لغة التجرى ، وهما اللسانان الرئيسيان المستخدمان من قبل عموم البجة . لا حظ انه يقول لغة التجرى ، ولم يستخدم مصطلح لغة الحباب ، وهذا مايدرء عنه سوء القصد . فى تقديرى انه استخدم مصطلح لغة الحباب مجازاً ، مثلما استخدمت أنا عبارة لغة البنى عامر مجازاً ايضاً ، بدلاً عن لغة هاسايت ، المتعارف عليها فى اوساط مجتمعنا يوماً ما ، ولكن يبدو ان هناك اسماء أخرى لتلك اللغة اهملت ، وهى الأحق . تحدث المؤلف فى كتابه عن الحباب عموماً بأفاضة ، ولا عجب ، وخص بيت اسقدى ، وكل زعماء الحباب السابقين ، بما يستحقونه من تقدير واهتمام ، ولم يغفل علاقة الحباب بالبجة الآخرين ، حينما أبان إنها علاقة حاكم بمحكوم ، وان كان آخرون يرون ان المؤلف ، شطح بعيداً بهذه العلاقة ، ولم يكن دقيقاً في وصفة لهذه العلاقة . عموماً كما أوضح المؤلف تلك العلاقة ، ولم يكن دقيقاً فى وصفه لهذه العلاقة ، بأنها كانت علاقات توادد وتراحم وتواصل وتصاهر فى معظمها ، إلا ما استحدث فيها من منزلقات . ثم عرج بنا الدكتور إلى تأثيرات الحباب ، على الثورة المهدية ، ومشاركاتهم الفاعلة ، سياسياً وعسكرياً فى دعمهم لها ، ثم ساقنا الى انعقاد اجتماعهم الاول ، لمؤتمر البجة ، وتطرق الى دور الحباب فى رفده بكفاءات ، ساعدت على وقوفه على رجليه .... الخ . أعجبنى حقيقة ان الحباب يسجلون كل حدث وان كان صغيراً ، بل يحتفظون بوثائق أهملها غيرهم من البجة ، فنال بها الحباب ، شرف نعتهم بالتحضر ، ويكفيهم فخراً ، إن فى كتابهم ، ما أسقط واسكت الأستاذ وتلاميذه من بعده ، أولئك الذين يعتقدون بجهالة ، إن لغتنا الثرية بجماليتها وتصريفاتها ( مسخ شائه ) ، ليأتى المؤلف بالدلالة ، حينما ازال لبساً تخبط فيه المفسرون ، لعدة آيات قرآنية ، وماذاك التخبط إلا لجهلهم بلغة بنى حمير فى جنوب جزيرة العرب ، والحميرية واحدة من الألسن السبعة ، التى نزل بها القرآن ، وان كان معظمه نزل على لسان قريش العدنانية . استعان المؤلف بلغة أهله من بنى عامر وحباب ، وهم فى غالبيتهم من أصول عربية حميرية ، ليفسر قوله تعالى ( ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين ) . يقول يمكرون من المكر ، وردت كثيراً فى القرآن ، واستشكل فهمها على كثير من المفسرين وعامه الناس ، حيث يتبادر إلى أذهان الكثيرين ، إن معناها هو الخداع والمرواغة ، لدرجة ان بعضهم ، يتحرج من إطلاق هذه الصفات على المولى عز وجل ، فتجده يبحث عن المبررات ، لتأويل المعنى ، فقد فسر بعضهم الآية قائلاً : إن المكر المضاف والمسند الى الله جل وعلا ، ليس كمكر المخلوقين ، فهو مكر محمود وليس مذموم ، لأنه إيصال للعقوبة لمن يستحقها ، فهو عدل ورحمة – هذا التفسير اجتهاد مأجور – ولكن المرء يجد صعوبة في التفريق ، بين خداع مذموم وآخر محمود ، بل تنهار الحجة كلها ، عندما نقرأ قوله تعالى في سورة الرعد ( فلله المكر جميعاً ) ، حيث لا ينبغى ان نقول : ان الخداع والتضليل جميعاً لله . بعودة المؤلف الى لغة أهله ، يجد أن المكر يعنى التخطيط والمشورة ، فعليه يكون التفسير الصحيح للآية ( ويخططون ويخطط الله ، والله خير المخططين ) ، ثم ننتقل إلى سورة الدخان ، فى قوله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام : ( وأترك البحر رهواً ) . قال مفسرون ان رهواً بمعنى ساكناً ، وقال آخرون بمعنى يابساً ... الخ ، وقالت لغة المؤلف ، رهواً بمعنى مفتوحاً – اى لاتقلقه بعصاك بعد عبورك ياموسى ، وهو مايتفق بالمعنى المراد . وآية ثالثة فى سورة البقرة ، عندما خاطب جل وعلا ، من أماته مائة عام فى قوله : ( .... بل لبست مائة عام ، فأنظر الى طعامك وشرابك ، لم يتسنه ، وانظر الى حمارك ، ولنجعلك آية لناس ) . قال مفسرون : لم يتسنه – اى لم يتغير وهذا التفسير كما يقول الدكتور المؤلف ، لا يتفق وسياق الآية ، فالمائة عام جعلت من عظام الحمار نخرة ، ولابد لها أن تغير من اكل الرجل وشرابه ، وهذا هو المراد وهذا هو المنطق ، ولحسم أمر الآية ، رجع المؤلف الى لغته الحميرية ، ليتبين له إن لفظ لم يتسنه ، اى لم يعد حسناً يطيب أكله أو شربه . هناك آيات كثيرة اجتهد فيها الدكتور فأصاب ، فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابه ( الحباب ملوك البحر ) . شكراً للدكتور إدريس جميل على هذا العمل الكبير ، فأن اختلف معه البعض فى تفاصيل ماجاء ذكره بين اسطر كتابه ، أو بعضاً منه ، فهو جهد بشرى ، قابل للنقصان ، فالمؤلف كما عرفته ، ليس ممن تأخذه العزة بالإثم ، فهو يتراجع عن معلومة أوردها سِفره خطأ ، متى ما اثبت الآخرون عدم صحتها وان كان استنتاجاً ، ولسنا فى حاجه الى مزيد من الخلافات ، فى ظرف يئن فيه سوداننا ، من انقسامات واعتداءات فرضت عليه حسداً ، فنحن أمه واحدة ، وان أختلفت مشاربنا ومسمياتنا ، صنعتنا مملكة سنار طوال 316 سنة ، فأحسنت صنعنا ، كرماً ومروءة وائتماناً ، حتى بدأنا نفقد صنيعها ولابد من عودة . نحن كبجة فى حاجة من المستنيرين من أبنائنا ، للعبور بنا إلى مساحات أوسع من فكر القبيلة الضيق ، لنحقق ذواتنا ، اقتصاداً وعلماً وصحة في ظل السودان الموحد ، إذ لا عزة لنا إلا باحترامنا لبعضنا البعض ، ولا فخر لنا إلا حين نحسب من أبطال السودان وعلمائه وأدبائه وفنانيه وعامته . بقلم / عبدالقادر رمضان عثمان البلوى السعودية – الرياض 00966502804490