ما كنت أود العودة مرة أخرى والخوض في الحديث عن الجدل الدائر هذه الأيام في جنوب السودان بين عشاق السلطة حول موضوع دخول القوات الدولية إلى جنوب السودان، غير أن ما ذكره القيادى بالحركة الشعبية، جناح المعتقلين السابقين باقان أموم في حوار نُسب إليه في راديو (تمازج) أثار في نفسي بعض تساؤلات حائرة! فالرجل قال إنه يؤيد قرار (كيغالي) القاضي بدخول القوات الدولية إلى جنوب السودان، بل قال إنه يشن حملة لحث المجتمع الدولي بتعجيل دخول تلك القوات إلى البلاد من أجل الإطاحة بحكم الرئيس سلفاكير وتجريد الميليشيات الموالية له من السلاح. لاحظ أنه قال (الميليشيات الموالية له)، وتكوين حكومة تكنوقراط لادارة الدولة لمدة لم يحددها أموم، إلى حين آقامة انتخابات ديمقراطية في نهاية الفترة الانتقالية التكنقوراطية مبيناً أن الامر نفسه قد تم تجريبه في سيراليون وليبيريا، وقد نجح بدليل أن البلدين المذكورين ينعمان حالياً بالأمن والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة بعد إطاحة القوات الدولية بحكومتي تلك البلدين. وقال إن مشكلة جنوب السودان لا تختلف كثيرا عما حدث في دولتي ليبريا وسيراليون، وعندما سأله محاوره عن فشل الأمر نفسه في العراق وليبيا وغيرهما من الدول، أوضح أموم بأن هذه التجارب مختلفة وتأثرت بعوامل أخرى، مشدداً أن الحل الوحيد في جنوب السودان هو التدخل الدولي. (انتهي حديث أموم). تمنيت لو أن ما حاوره أضاف سؤالا واحداً وأخيراً ألا وهو: وهل هذه العوامل منعدمة في جنوب السودان؟ أعتقد أن هكذا سؤال والرد عليه كان سيغنيني عناء الكتابة، لسبب بسيط ألا وهو. لو أخذنا تجربة التدخل الأميركي في العراق وإطاحته بنظام صدام حسين كأنموذج، نجد أن العراق اليوم قد انقسم إلى ثلاث مجموعات رئيسية، وهي السُنّة، الشيعة والاكراد، وقد انحازت أميركا للشيعية وسلمتهم السلطة على حساب السُنة، ولم تهتم بالأكراد. الجميع يعلم ما فعلته العشائر الشيعية بالسُنة وغيرها من القوميات العراقية، وكانت المحصلة ظهور تنظيم (داعش) المحسوب الي السنة والذي ينبري العالم اليوم لمحاربته بعد أن وضح للجميع أن حربه الانتقامية ليست مقصورة على العراق، بل امتدت لتشمل بلاد الغرب، ولو أخذنا مثالاً آخر من الجوار الجغرافي نجد أن الأمر نفسه حدث في دولة الصومال القريبة التي لم تنعم بأي حكومة وطنية ولا حتي صورية منذ عام 1991 عندما دخلتها أميركا بقوة السلاح وخرجت منها خائبة الرجاء بعد أن منيت قواتها بهزائم نكراء على أيدي الميليشيات الصومالية، وتركت الصومال عائمة في الفوضى إلى يومنا هذا. لا أعتقد أننا بحاجة إلى مزيد الفوضى وتلك النماذج، بقدر ما حاجتنا لإعادة السؤال نفسه من جديد، هل هذه العوامل مستبعدة في جنوب السودان؟ فإذا كان الجواب بنعم.. فألف مرحب بالقوات الدولية، ولكن حسب المعطيات التي أمامنا ونحن نعيش في أرض الحدث ومعرفتنا بطبيعة البلاد الجغرافية ودرجة التناحر القبلي التي وصل بها الحال بعد حرب (الساسة) حول كراسي السلطة، أجزم بالقول أن جنوب السودان سيكون اسوأ من نموذج العراق وليبيا والصومال إذا دخلته قوات دولية بهدف تغيير النظام فيه كما يريد باقان، لأن العوامل التي أدت لاستفحال مشكلة العراق وليبيا والصومال من كثرة توفرها في جنوب السودان تكفيه لتقوم مجازر غير مسبوقة في تاريخ العالم الحديث، ولا أعتقد أن الأمر سيُسر باقان حينها، لأن فلسفة التكنوراط لا مجال للحديث عنها في ظل قوات غازية تهدف لتغيير النظام، وحديثي هذا لا أقصد منه إخافة الناس من ويلات مفترضة أو من بنات أفكارى. أبداً لا، كما لا أقصد أن يمتنع العالم ويقف متفرجاً ويتركوا الجنوب تطحنه الحروبات الأهلية، فشخصي يقر بوجود طرق أخرى أكثر سلامة من طريق (البقانية) الذي يراه أوحد لحل مشكلة الجنوب هو ومن شايعه.. فالمجتمع الدولي يمكنه أن يلعب دوراً إيجابياً كبيراً ومحورياً لوقف هذا النزيف إذا أراد ذلك، ودون الاستعانة ولو بجندي دولى واحد، وإذا ما سلمنا أن أمر القوات الدولية أصبح امراً محتوماً فلا أعتقد انه سيتم بمعزل عن الحكومة، وهنالك طريق آخر وهو الجنوبيين لوحدهم يمكنهم وضع حدٍ لهذه المهزلة لو تصافت النفوس واقتنعوا بعدم جدوى الحرب، وهنالك دلائل تشير إلى أن الجنوبيين فعلاً في هذا الطريق، وقد حدثني صديقٌ عائدٌ من مناطق العمليات قبل اتفاقية حل النزاع أن كان بينهم وقوات المعارضة المسلحة اتفاقية سلام ووقف عدائيات معلنة من الطرفين لدرجة أنهم كانوا يتبادلون الأكل ومياه الشرب والادوية والعلاج من الأمراض في ظل الحرب، بل وينصحون بعضهم البعض إذا حدثت أي تغييرات سياسية سلبية من شأنها أن تعيدهم للحرب، ويقول صديقي ان هذه الاتفاقية لا يعرف عنها قيادتهما في كل من جوبا وفاقاك شيئاً. فالجنود في الميدان سئموا الحرب ولكن كيف يعرف الساسة ذلك؟ وألقاكم سايمون دينق ... جوبا