هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخليفة عبد الله


The Khalifa ‘ Abdallah
آلان بوكان ثيوبولد A.B. Theobald
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لمقال بقلم آلان بوكان ثيوبولد عن الخليفة عبد الله نشر في العدد الحادي والثلاثين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة في عام 1950م. والمقال عبارة عن محاضرة كان ثيوبولد قد ألقاها أمام الجمعية الفلسفية السودانية في اجتماعها العادي في يوم 27 أكتوبر 1949م.
والبريطاني ثيوبولد هو مؤلف الكتابين الشهيرين "المهدية: تاريخ السودان الإنجليزي المصري 1881 – 1898م"، والذي ترجمه محمد المصطفى حسن عبد الكريم ونشره مركز عبد الكريم ميرغني عام 2010م، و"علي دينار: آخر سلاطين دارفور 1898 – 1916م" والذي ترجمه فؤاد عكود. شغل الرجل عدة وظائف بحكومة السودان لأكثر من ثلاثين عاما، معلما واداريا في مصلحة المعارف (عمل مفتشا للتعليم في المديرية الشمالية عام 1929م). وعمل في الخمسينيات من القرن الماضي نائبا لمدير كلية الخرطوم الجامعية وعميدا لكلية الآداب بها.
وهنالك بعض الكتب العربية عن الخليفة منها أطروحة دكتورة فيفيان ياجي عن حياة الرجل وسياسته (التي ترجمها من الفرنسية دكتور مكي بشير البدري)، وكتاب لمحمد محجوب مالك صدر عام 1987م بعنوان "المقاومة الداخلية للحركة المهدية (1881 – 1898م).
المترجم
********* ******* ************ *************
لا شك عندي في أنكم تلمون بالخطوط العريضة لتلك الفترة التاريخية من تاريخ السودان العامرة بالرومانسية والدراماتيكية، وللأسف بالبؤس أيضا، والتي تعرف بالمهدية. وتعلمون أيضا كيف أعلى محمد أحمد، ذلك الفكي المغمور، من مستوى تمرده في الجزيرة أبا في أغسطس من عام 1881م ضد نظام الحكومة المصرية – التركية الفاسد المنحل، وأعلن أنه هو "المهدي المنتظر"... ذلك الرجل الذي يؤمن المسلمون بأنه سيأتي يوما ليؤيد الاسلام، وينشر العدل في الأرض، ويعيد للدين مجده الذي كان في عهد النبوة الأولى. وتتذكرون كيف أحرز الرجل انتصارات باهرة متتالية، وأسقط كل مناطق غرب السودان تحت قدميه، وكيف أن الحكومتين البريطانية والمصرية أرسلتا إثر ذلك الجنرال غردون لإخلاء بقايا الحاميات المصرية من السودان. ثم وجد غردون نفسه محاصرا في الخرطوم، فأرسلت أخيرا حملة لإنقاذه، إلا أنها وصلت متأخرة، فلم تنقذ غردون ولم تمنع سقوط المدينة بعد أن صمدت لقرابة عام كامل. وبعد مرور 11 عاما بدأ البريطانيون والمصريون في عملية إنقاذ السودانيين التعساء مما عدوه طغيانا قاسيا من حاكمهم الخليفة عبد الله، وأفلحت تلك الحملة في هزيمة الخليفة عبد الله في معركة أم درمان (كرري عند السودانيين. المترجم) في الثاني من سبتمبر عام 1898م، ونجحت في قتله لاحقا في عمليات مطاردة بعد نحو عام من سقوط أم درمان.
وألفت في الجنرال غردون عشرات الكتب والمقالات المادحة (والمتزلفة)، ووصف تشرشل ما دار في معارك استرداد (إعادة فتح) السودان وصفا تفصيليا في كتابه "حرب النهر". غير أن فترة حكم الخليفة عبد الله ظلت مجهولة إلى حد كبير، حيث تجاهلها المؤرخون تماما (كتب عن تلك الفترة من السودانيين إسماعيل الكردفاني ويوسف ميخائيل وبابكر بدري. المترجم). تلك هي السنوات بين وفاة المهدي في يونيو من عام 1885م وبداية عمليات "إعادة الفتح" في مارس من عام 1896م. وهذا ما سأحاول التطرق لبعض جوانبه هذا المساء.
مثلت وفاة المهدي المفاجئة بعد نحو نصف عام من انتصاره الكبير وسيطرته على العاصمة صدمة كبيرة لأنصاره، وخسارة لا تعوض. فقد توفي بالفعل وهو في قمة انتصاراته ونجاحه في تحقيق أهدافه الآنية المباشرة. وكانت أمامه فرصة تدعيم تلك النجاحات بالسلم بعد أن حققها بالحرب، وفي قيادة شعبه نحو الرفاهية والتقدم. وباءت كل تلك الآمال بالضياع بموته المبكر. ولحسن الحظ لم يكن أمر خلافته موضوع شك أو تساؤل جدي، فقد كان المهدي قد ترك وصية محددة بأن يكون أول خلفائه من بعده هو الخليفة عبد الله. ولم يكن هنالك عمليا من له ما يكفي من القدرة والشخصية لينازعه الخلافة. لذا دانت له الخلافة في سلام ودون خلاف يذكر.
غير الخلافات التي واجهت الحاكم الجديد كانت ستثبط من همة أي فرد يقل مقدرة وقوة عنه. ففي الشمال كانت هنالك مصر، وهي مسنودة من قبل قوة بريطانية كبيرة (ولكنها مترددة بعض الشيء). وكان هذان البلدان على خلاف في كثير من الأمور، وليس بينهما كبير ود، بل لم يكن بينهما غير العداء المعلن. وإلى الجنوب توجد الحبشة، وهي قوة أفريقية كبيرة ومحاربة ولا تخلو من غموض. وصمدت الحاميات المصرية في كسلا وسنار، وفي الاستوائية البعيدة، حيث كان غردون قد عين الدكتور الألماني الصغير غريب الأطوار أمين باشا مديرا لها. وظل البريطانيون يحتفظون بسواكن، وظل وجودهم هذا شوكة حادة في خصر الدولة المهدية. ولم يكن حتى المهدي نفسه قد أفلح في جمع السودانيين كلهم على كلمة واحدة وفي جيش واحد. فقد كان كثير من رجال القبائل الكبرى لا يطيعون أولا سوى زعمائهم، وكان هؤلاء الزعماء يغيرون من بعضهم البعض، ومن سلطات ونفوذ بعضهم. وكانوا يرون في الخليفة عبد الله رجلا عصاميا بنى نفسه بنفسه، وليس له حق تقليدي في حكمهم. وكان السودان بلادا شاسعة مترامية الأطراف، وغير مأهولة بالسكان في معظمها، وليس هنالك من مواصلات تربطها غير خطوات الجمال. لم تكن هنالك صناعات ولا ثروة معدنية متطورة. وكانت الزراعة بدائية، وعانت من الإهمال في سنوات الحرب الطويلة. ولم يكن هنالك جهاز حكومي بالمعنى العصري – فلم يكن هنالك دستور ولا برلمان ولا مجلس وزراء ولا محافظات ولا أحزاب سياسية، ولا انتخابات، ولا صحافة أو رأي عام. لقد أزيل النظام المصري الفاسد عديم الكفاءة، إلا أن المهدي لم يبدأ عملية إنشاء دولته الثيوقراطية الجديدة حتى توفي. لم تكن ببلاده خدمات صحية، وليس هنالك فيها من مدارس غير المدارس البدائية (الخلاوي) في القرى. ولم يتلق الخليفة نفسه أي تعليم يذكر غير ما تلقاه من والده، والذي كان "فكي" في غرب السودان. ويبدو أنه نسي ما كان قد تعلمه من مبادئ القراءة والكتابة مع تقدمه في العمر.
ماذا كان عند الخليفة من مؤهلات ومقومات (assets)؟ لم يكن بمقدوره الاعتماد فعليا إلا على رجال قبيلته، وهم محاربون شُوسٌ يحتقرون القبائل النيلية مثلما كانت تلك القبائل، في المقابل، تبادلهم الاحتقار أيضا. كان الخليفة يعتمد عليهم وعلى أخيه يعقوب، وفوق كل ذلك على نفسه، وعلى حكمته ودهائه وقوته التي لا تعرف الرحمة. ولا يوجد أدنى دليل في الواقع على أن عبد الله أحس في أي مرة من المرات بأنه ليس أهلا لمهمة القيادة.
لا غرابة إذن والحال هكذا أن يكون الحكم في عهد الخليفة فرديا. كانت سياسته تقوم، فيما أظن، على مبدأ "الصراع من أجل البقاء". لقد جاهد كي يؤسس سلطة لا معارضة فيها ولا مقاومة لها، ثم سعى للحفاظ على تلك السلطة بكل ما لديه. لا أحد يمكنه انتقاد ذلك الهدف، إذ أن ذلك أمر طبيعي وغريزي، وهو، على كل حال، السبيل الممكن الوحيد لحكم السودان. ولكن يمكن بالطبع انتقاد الطرق التي سلكها الرجل. غير أنه يجب أن نتذكر دوما المعايير المختلفة لذلك العصر والمكان. ولا بد هنا من الإشادة بكثير من الإعجاب لنجاح الخليفة – على مدى 13 عاما – في خلق نظام إداري لا يخلو من العنف، ولكنه كان فعالا وعمليا. لم يكن إلا لرجل صاحب قدرات عالية وشخصية قوية أن يفعل كل ذلك. لم يكن إنجاز الرجل مذهلا مثل إنجاز المهدي نفسه، ولكنه ربما لم يقل عنه أهمية.
بدأ الخليفة عهده في الحكم بالسيطرة على كسلا وسنار في يوليو وأغسطس من عام 1885م، على التوالي. وذلك تخلص من آخر معقلين للمقاومة في مناطق شمال السودان الداخلية. وجابه الخليفة من بعد ذلك عددا من التحديات، واستطاع التغلب عليها جميعا. فقد قامت جماعة من أقرباء المهدي (يسمون بالأشراف) على رأسهم الخليفة الثالث محمد شريف بقبول خلافة عبد الله للمهدي، كما هو متوقع. غير أن استمرارهم في الإذعان لخلافته ظل أمرا مستبعدا. لذا بقي الخليفة مرتابا ومتحسبا من محمد شريف وجنود جيشه الخاص، ويعده خطرا محتملا. غير أن محمد شريف كان يدرك أيضا أن قوته العسكرية أضعف بكثير مما تحت الخليفة عبد الله. ولحسن الحظ كان الخليفة الثاني (على ود حلو) رجلا متدينا ليس له في شؤون الحرب ولا السياسة سهم كبير، فقدم نفسه بحسبانه وسيطا نزيها بين الرجلين، فتم قبول محمد شريف لشروط الخليفة، التي تضمنت تسليم الرجل لجنوده وأسلحته ومخازنه وراياته وطبول حربه للأمير يعقوب وجيشه. ولم يسمح لمحمد شريف إلا بخمسين جنديا لحراسته الشخصية.
وفي دارفور كان هنالك قريب آخر للمهدي هو محمد خالد زقل، الذي صار حاكما لدارفور عقب هزيمة سلاطين. كان زقل يحكم بصورة شبه منفردة لبعد المسافة التي تفصله عن أم درمان، وغدا رجلا بالغ الثراء مما تنتجه وتصدره مديريته. توجه الرجل صوب أم درمان في بدايات عام 1886م على رأس قوة كبيرة. وكان الخليفة عبد الله يعتقد بأن زقل كان على اتصال بمحمد شريف، وأنه كان يخطط للوقوف في صفه، أو على الأقل سيكون ظهوره في العاصمة على رأس قوة عظيمة مصدرا لتشجيع الأشراف وتهديد الخليفة عبد الله. لذا قرر الخليفة عبد الله أن يستبق خصومه، وأن يقضي على أي حركة مناؤة في مهدها. بدأ الخليفة بإصدار أمر لحمدان أبو عنجة (أكثر أمرائه إخلاصا وثقة) في الأبيض بلقاء قوات زقل والسيطرة عليها. وبالفعل التقى حمدان وجيشه بقوات زقل في بارا وهزمها دون دخول في قتال حقيقي، فقد فر غالب جنود زقل وانضموا لجيش أبو عنجة. وأعتقل زقل لفترة قصيرة، وصودرت ممتلكاته الكثيرة. غير أن الخليفة عفا عنه بعد أن زال خطر الأشراف، بل استفاد من خدماته لاحقا.
وفي عام 1887م بدأ الخليفة في استقدام أعداد كبيرة من أفراد قبيلته لأم درمان من أجل تدعيم موقفه ضد القبائل التي كانت ما زالت لا تؤديه، أو تجرأت على سلطته فعارضتها وتمردت عليها. ومن تلك القبائل قبيلة الكبابيش الرعوية في منطقة شمال كردفان ودارفور، التي لم تقبل قط بالمهدية. وكان المهدي قد أعدم زعيمهم بعد إسقاطه لمدينة الأبيض. وكان الكبابيش قد عملوا أيضا على مساعدة حملة إنقاذ غردون بمدها بأعداد كبيرة من الإبل. وتولى زعامة القبيلة صالح فضل الله ود سالم شقيق زعيم القبيلة الذي قتله المهدي، وظل هو وأفراد قبيلته في عزلة (غير مجيدة) ومعارضة سالبة حتى الأيام الأولى لحكم الخليفة. وفي بدايات عام 1887م قام الكبابيش بغارة ناجحة على قافلة جمال كانت في طريقها إلى أمير آخر كان أثيرا عند الخليفة هو عبد الرحمن ود النجومي. ولما كان صالح ود سالم يعلم ما سيكون من ردة فعل الخليفة سارع بالاتصال بالحكومة المصرية والتي منحته 200 بندقية جيدة من نوع ريمنقتون، مع ذخائرها و200 نقدا من الجنيهات المصرية (ج م). وعلم بصاصو (جواسيس) النجومي بما دبره صالح ود سالم وجماعته فأقام كمينا ناجحا في الصحراء غرب دنقلا واستولى على البنادق والذخائر والجنيهات المصرية. واستغل الخليفة ذلك الحادث فسير جيشا كبيرا للقضاء على تمرد صالح ود سالم. وبالفعل نجح الخليفة في مسعاه، وأرسل رأس صالح ود سالم لأم درمان حيث علق على عمود طويل ليراه الناس، ولينذر من كانت تحدثه نفسه بالتمرد على الخليفة وحكمه. وبدأ الخليفة من بعد ذلك في تحطيم قبيلة الكبابيش بصورة منهجية منظمة.
ولقيت قبيلة متمردة أخرى ذات المصير، ألا وهي قبيلة رفاعة الهوى (فرع من جهينة) وزعيمها يوسف المرضي أبو روف. وتقطن تلك القبيلة في الضفة الغربية للنيل الأزرق في منطقة سنار، وهي منطقة زراعية كانت مصدرا رئيسا للذرة المستهلكة في أم درمان. قام يوسف ود أبو روف بفرض ضرائب على المراكب المتجهة شمالا، وأبى أن يبايع الخليفة، وقتل بعض رجال الخليفة في منطقته. كان يتصرف كزعيم إقطاعي يحتقر سلطة الخليفة ويسفهها. وكما حدث مع الكبابيش وزعيمها، أرسل لهم الخليفة جيشا هزمهم، وأتي برأس ود أبو روف ليعلق في مشنقة عالية بأم درمان عظة وعبرة.
وبهذا بدا أن الأمر قد استتب للخليفة على البلاد، خلا دارفور القصية، التي كانت بعيدة عن عين ويد الخليفة الصارم. ففي تلك المديرية كانت هنالك ما تزال بعض الجماعات التي تتحدى سلطة الخليفة، وتقوم بتمرد عسكري عليها. ومن هؤلاء يوسف ولد سلطان دارفور السابق، والذي تركه زقل نائبا له بعد أن غادر دارفور متجها نحو أم درمان. وتحالف يوسف مع زايد سلطان جبل مرة ضد الخليفة، وكسبا بعض المعارك في بادئ الأمر، ولكن تم القبض عليهما في يناير من عام 1888م وقتلا، وأرسل رأسيهما لأم درمان.
ولكن ما أن هدأت الأوضاع قليلا، وأزيل خطر حركات التمرد تلك، حتى ظهرت تمرد آخر. بدا في أيام المهدي الأولى أنه من المستحيل تقريبا قيام أي حركة جماهيرية دون أن تجيزها قوى التعصب الديني. وهذا ما حدث من سكان دارفور التعساء الذين خاب أملهم في المهدية. فمن وسط قبيلة يتميز أفرادها بالعنف والتخلف (هكذا! المترجم) في أقصى الغرب ظهر فكي عرف بأبي جميزة (سمي بذلك لأنه كان يعظ الناس وهو تحت ظل شجرة جميز). وعلى كل حال يمكن اختصار وصفه بأنه كان شيخا معاديا للمهدية، وصاحب قدرة على الإتيان بمعجزات. من تلك المعجزات أن ظل تلك الشجرة كان يرافقه أينما ذهب، وزعم بعضهم أن الرجل كان بمقدوره أن يخرج اللبن من بين أصابعه، وأن ينبت من رمال الصحراء نخلا محملا بالثمار. وأهم من ذلك كله، فقد كان في نظر مناصريه قائدا لا يهزم في المعارك أبدا. وسرت الشائعات في أم درمان بأن الفاشر قد سقطت في يد أبي جميزة، وتبعتها الأبيض، وأنه يتقدم صوب النيل الأبيض ومنها للعاصمة.
غير أن الأحداث التي وقعت بعيد ذيوع تلك الشائعات أثبتت أن ما حدث هو أنه عقب بعض الانتصارات المحدودة التي أحرزها أبو جميزة أصابه مرض الجدري وتوفي بعد فترة قصيرة من مرضه. وبذا غاب عن المشهد الزعيم الملهم لأنصاره، والذين واجهوا الأمير عثمان ود آدم في معركة فاصلة خارج الفاشر، تم فيها القضاء عليهم. وكتب الأمير ود آدم خطابا للخليفة قال فيه أنه تعذر عليه إرسال رؤوس جميع قادة "الفتنة" بسبب ثقلها، ولكنه عوضا عن ذلك اكتفى بإرسال رأسي قائدين منهم، مع بعض راياتهم وأغراضهم كدليل على الانتصار الساحق عليهم.
وبنهاية عام 1888م كان الخليفة قد فرغ من عدة معارك دموية، بسط بعدها سيطرته على كافة أرجاء البلاد. فقد كبح جماح الأشراف، وهزم القبائل المعادية (مثل الكبابيش ورفاعة الهوي)، ودحر السلطان يوسف ثم أبا جميزة في دارفور. ولا بد أن الجهود الحربية في تلك المعارك الكثيرة قد استنفدت من قواه. غير أنه شغل أيضا بالإضافة لتلك المعارك بتهديد جارته الشمالية (مصر) وجارته الشرقية (الحبشة). وكانت فكرة فتح مصر تراوده منذ أن تولى الخلافة. أما الحبشة، فلم يكن يريد أن يبادرها بالعداء، ولا أن يراضيها، ولكنه قبل الصدام معها بحسبانه ضربا من ضروب "اختبار القوة".
ومن بين كل حروب الخليفة، فقد كانت حربه ضد الحبشة (التي استمرت متقطعة منذ بداية عام 1887م إلى بداية عام 1889م) هي أكثر حرب لم يكن لها من داع أصلا، وكان يمكن بسهولة تفاديها. لم أستطع أن أعثر على سبب جوهري لتلك الحرب. فالقطرين لهما مساحة كبيرة شاسعة، ويتشاركان في صفات البعد وعدم التنظيم، وليست لهما مشاكل حدودية أو صراع مصالح يذكر. بل لعله كان من مصلحتهما أن يتعاونا معا في مجال التجارة. غير أن مما كان يجمعهما من الخواص هو أن من كان يحكم كل منهما كان رجلا فخورا بنفسه ومحبا للحروب، ويرغب دوما في أن يظهر نفسه بمظهر الأقوى من جاره (يمكن للقارئ مراجعة المقال المترجم: "مناهضة جار مسيحي: تصورات السودانيين عن إثيوبيا (الحبشة) فى عهود المهدية الأولى" لفهم أسباب تلك الحرب كما رأتها تلك المؤرخة. المترجم).
لن أستطرد في سرد تفاصيل معارك الخليفة عبد الله ضد الحبشة، ولكن يكفي أن أذكر أن الخليفة بعث بأبي عنجة على رأس جيش قوامه 60000 من المحاربين المسلحين (وهو ربما كان أكبر وأقوى جيش يحارب في معركة واحدة منذ بدء الدعوة المهدية). وهزم الأحباش في دبرا سين Debra Sin، على بعد ثلاثين ميلا شمال قوندار، واقتحمت تلك المدينة ونهبت ثم أحرقت. وأقسم الملك الحبشي جون (يوحنا) على الانتقام. وأصيب الجيش المهدوي في اللقاء الثاني مع العدو بصدمة غير متوقعة بعد أن توفي قائده "حمدان أبو عنجة" (وهو لم يهزم في حياته قط في معركة حربية) بعد أن تناول عشبة طبية لعلاج سوء هضم ألم به. هاجم الأحباش القلابات بجيش يفوق جيش الأنصار، وكادوا يهزمونهم لولا أن طلقة طائشة أصابت ملكهم جون في مقتل، ففقد الجيش القائد والروح المعنوية واندحر مهزوما. ودخلت بعد ذلك الحبشة في حروب داخلية بين المتنافسين لوراثة عرش جون، ولم يستطيع جيش الخليفة المتعب من كثرة المعارك أن يواصل في حروبه بالحبشة. ولم يحرز الطرفان ما كانا يسعيان إليه من نصر، ولم يكسب أي منها أي شيء. وانتهت الحرب التي قامت بلا سبب، بلا نتيجة.
وعند انتهاء حربه ضد الحبشة في مارس من عام 1889م كان الخليفة في قمة قوته. ففي غضون أربع سنوات من المعارك المتصلة، أفلح في إقصاء أعدائه في كل مكان، وأبعد كل احتمال للتمرد عليه. فبسط سيطرته على كل السودان خلا ما كانت القوات البريطانية تحتله بسواكن في الشرق، وأمين باشا في شريط ضيق في الاستوائية. وصارت كلمته هي القانون، وايماءة من رأسه هي كل ما يلزم لوضع الأغلال في أرجل وأيدي التعساء ممن سيرمون في السجون، أو لرفعهم لأعلى المناصب وأرفع الدرجات. وخلا للخليفة الآن الجو للفوز بالغنيمة الكبرى، ألا وهي حكم مصر. وكانت تلك من أهداف المهدي أيضا لنشر الدعوة المهدية وإقامة دولتها الكبرى.
ولكن لا بد من السؤال عن كيفية وصول الخليفة لذلك الحكم المطلق والسيطرة الكاملة على مقاليد الأمور. لقد عمت الحروب وسالت الدماء في كل مناطق السودان تقريبا. وأهملت في ذلك العهد الزراعة، ولاح تهديد مجاعة شاملة، وظهرت أوبئة فتاكة في أم درمان الملوثة المكتظة بالسكان، وتوفي غالب قادته المخلصين، وكاد جيشه يتحطم في معاركه الكثيرة (رغم الانتصارات). وكادت نيران الدعوة المهدية تخمد، وبدأ حاسدوه من الأشراف يرقبون ساعة عودتهم، وبدأ سكان شمال السودانيين النيليين في التململ والاحتجاج الخافت من طغيان رجال القبائل البدوية. غير أن الأمور بالنسبة للخليفة الظافر في مارس من عام 1889م بدت في أحسن أحوالها. ولكن كانت الحقائق الواقعية تقول بأن حظوظ الخليفة قد كفت عن الابتسام له، فسرعان ما تعرض لسلسلة من الصدمات هزت قبضته على السلطة وقدرته على المقاومة عندما شرع البريطانيون والمصريون في حملتهم ل "استرداد" السودان.
أرسل الخليفة عبد الله جيشا قوامه 5000 من المحاربين على رأسه الأمير الشجاع الزاهد والمفعم بحب المهدية عبد الرحمن النجومي لغزو مصر. وكان مع هؤلاء الجنود نحو 8000 من المرافقين (زوجات وعائلات المحاربين). ولكن كانت خصال النجومي تلك هي مصدر ضعفه، فقد أعمى إيمانه المطلق بالمهدية حكمه على الأشياء. لم يكن يتطرق إلى قلبه شك في أن الله مع المهدية، ولذا لا توجد قوة في الأرض بمقدورها هزيمة جيشها. وقاده إيمانه الصوفي بقوة المهدية التي لا تقهر للإيمان بأن سكان مصر لا ينتظرون إلا إشارته لهم لينتفضوا ضد حكامهم وينضموا لصفوف قواته. ولعل الرسائل التي وصلته من (بنبان) بصعيد مصر، حيث كانت تقطن مجموعة من اللاجئين السودانيين (من دنقلا)، قوت من إيمانه بحتمية النصر على مصر. ونتيجة لثقته المفرطة في الانتصار، وفي تقدير قوة جيشه، ولسوء تقديره لقوات خصومه، ولجهله بالجهد الذي بذل في تدريب جيش الخديوي وتجهيزه بالأسلحة خلال السنوات التي أعقبت خروجه من السودان، تلقى النجومي هزيمة منكرة في (توشكي) حتى بعد نجاحه في اختراق حدود مصر لمسافة 60 ميلا، بسبب انعدام التموين، وقلة العدد، وسوء التسليح. وقتل الأمير النجومي وعدد كبير من أنصاره، وفر من نجا من المعركة إلى صواردة، الواقعة نحو 130 ميلا جنوب حلفا. ويتعجب المرء من إرسال الخليفة لجيش قوامه 60000 من الجنود لقتال الأحباش، ثم يرسل 5000 فقط لفتح مصر! ولعل هنالك من يشير في هذا الخطأ البين إلى جهل جنائي (criminal ignorance)، وسوء فهم للشدة النسبية للمهام المطلوبة من الجيشين الذين بعث بهما الخليفة للحبشة ومصر (تطرق المحاضر بعد ذلك للحديث مطولا عن تفاصيل المعركة التي خاضها جيش النجومي. المترجم).
أما في الشرق، فقد وقع العبء على عثمان دقنة، ثالث أمراء الخليفة العظام، وأكثرهم دهاء، وأشدهم حنكة، وأقدرهم على المراوغة. لم يكن هنالك للبريطانيين في الشرق غير سواكن وقلعتها، والتي كان جنود عثمان دقنة يهاجمونها من وقت لآخر. وبدأت السلطات العسكرية في سواكن في التململ من الدور السلبي الذي كتب عليها القيام به، ومن أن حراستها لميناء سواكن فحسب (وليس كل شاطئ البحر الأحمر حوله) لا تجدي في منع تجارة الرقيق بين السودان والجزيرة العربية. وكان من المعروف أن كثيرا من القبائل المحلية قد ملت من طرق ووسائل عثمان دقنة الديكتاتورية، وعدم استقرار الحياة في مناطقهم. وربما كانوا سيثورون ضده إن وجدوا بعض العون من سواكن، فبدون ذلك لم يكن ليجرأ أحد منهم على الثورة ضده.
لذا تقرر ضرب مركز عثمان دقنة في عقر داره... في طوكر. فبدون طوكر (مركز دلتا نهر بركة الغني) لن يجد مصدرا للمؤن، وسيضطر لهجر الشرق كله واللجوء إلى نهر أتبرا. ورغم أن الحكومة البريطانية كانت قد رفعت يديها عن السودان وشأنه الداخلي، إلا أن إغراء القضاء على جيش عثمان دقنه كان أكبر من أن يقاوم. وبالفعل تمت مهاجمة جيشه وهزيمته في فبراير من عام 1891م، وإعادة السيطرة على طوكر (فقد كان المهدويون قد سيطروا عليها قبل سبع سنوات)، وتقهقر عثمان دقنة كما كان متوقعا لمسافة 200 ميلا غربا في اتجاه نهر أتبرا. ولم تفق قواته قط من تلك الضربة القاصمة. وهدأت منطقة الشرق واستسلمت القبائل المحاربة. وبعد ذلك فتح طريق التجارة بين بربر وسواكن. ولأن كل ذلك تم بدون وقوع خسائر تقريبا في صفوف البريطانيين، فقد كان ذلك مصدر لرضا الرأي العام البريطاني، الذي لم يلحظ وقوع أي مخالفة لسياسة بريطانيا المعلنة القاضية بعدم التدخل في شؤون السودان. ورفع ذلك من معنويات الجيش المصري الجديد.
ولمدة ثلاث سنوات قادمة لم يحدث تغيير يذكر في المناطق التي كان يسيطر عليها الخليفة. ولكن سرعان ما أتته مشكلة جديدة من مصدر غير متوقع تماما. فقد استولى الإيطاليون على ميناء مصوع المهم في عام 1885م، وتقدموا في داخل الأراضي الإرترية واستعمروها. وفي يوليو من عام 1894م قاموا بهجوم خاطف سيطروا به على كسلا، أكبر مدن الشرق، وعاصمة مديرية التاكا في عهد الحكم المصري – التركي. لذا وقع نبأ سقوط كسلا على الخليفة ومجلسه وقوع الصاعقة، فأمر الخليفة بتسيير مدد لجيشه في نهر أتبرا، لاستعادة كسلا. غير أن شيئا من ذلك لم يحدث.
وفي جنوب السودان كان ليبتون بيه قد استسلم للمهدويين في بحر الغزال عام 1884م، وتم عزل أمين باشا في الاستوائية. وظلت هاتان المديريتان عمليا بلا إدارة، وكانت سلطة الخليفة عليهما اسمية فحسب. (انظر قصة استسلام ليبتون بيه للقائد المهدوي كرم الله كركساوي في مقال أي. ماكرو المترجم المعنون "فرانك ميلير ليبتون". المترجم). ولعل الخليفة كان يؤثر عدم قيام إمارات قوية في المناطق النائية التي يصعب على جيشه الوصول إليها، مما يشجعها على ما يشبه الاستقلال، وربما تحدي سلطته المركزية (كما فعلت دارفور). والدليل على ذلك هو أن الخليقة لم يحاول ضم الاستوائية لسلطته حتى بعد أن أخلى المستكشف ستانلي حاكمها أمين باشا في 1889م. وكانت أقصى نقطة يحكمها بالفعل هي راجا، والتي اتخذها منفى لمن فقدوا وده.
ولم يكن الخليفة (ولا غيره في أم درمان) على علم بحقيقة ما يجري في بحر الغزال، غير أن الشائعات ذاعت في أم درمان بعد عام 1892م عن بيض غرباء في تلك المنطقة. وتبين لاحقا أن هؤلاء بلجيكيين منحتهم بريطانيا حق تملك مساحات واسعة على حدود بحر الغزال (عرفت فيما بعد ب "دولة الكنغو الحرة"). وكانت آخر نقطة للدولة المهدية قرب تلك المنطقة هي "شاكا" في جنوب دارفور. ولكن بعد هزيمة الدينكا لهم عام 1893م، لم يستطيعوا إيقاف دخول البلجيكيين (ثم الفرنسيين لاحقا) إلى المناطق الحدودية لجنوب السودان.
وبدأ العد التنازلي لسلطة الخليفة وسيطرته على مقاليد الحكم في كافة أرجاء البلاد بعد عام 1895م. ففي شمال السودان أفضت هزيمة النجومي في توشكي لتراجع حدود بلاده 130 ميلا جنوبا. وفي الشرق انسحب عثمان دقنة مسافة 200 ميلا، وفقدت مدينة كسلا للقوات الإيطالية. أما في الجنوب فلم تكن للخليفة أي سلطة على غالب مساحة الاستوائية وكل بحر الغزال. وفي الشمال بدأ خطر غزو الجيش المصري (الجديد) المسنود من بريطانيا يلوح في الأفق كسحابة سوداء. غير أن الخليفة كان، رغما عن تناقص مساحة بلاده من أطرافها، يؤمن مطمئنا بأنه حاكم لكل السودان.
وظل الخليفة في ما اعتبرته فترة حكمه الثانية (من مارس 1889م، بعد هزيمته للأحباش)، آمنا نسبيا من المشاكل الداخلية. صحيح أن البلاد تعرضت في ذلك العام لمجاعة كبيرة، ولغزو أعداد مهولة من الجراد. وحاول الأشراف في عام 1891م القيام بثورة في أم درمان، أفلح الخليفة في إخمادها بسهولة، وأرسل قائدها محمد شريف للسجن حبيسا مع ثلة من رفاقه. ولم تشهد الأعوام الأربعة التالية (1892 – 1896م) أي مجازر أخرى، ولم يقتل الخليفة في غضونها سوى قائدين من قواده هما الأمير الزاكي طمل، وقاضي الإسلام أحمد علي. ولعله كان قد رأى أن الأخطار المحيطة ببلاده، والأوضاع على حدود بلاده تنذر بخطر قادم، فآثر أن يعمل على تقوية وتأمين وضعه في الداخل.
وأورد تقرير استخباراتي محفوظ الآن في مكتبة نيوبولد تاريخه يوم 12/12/1892م ملخصا لبعض ما ذكره أحد أفراد قبيلة معارضة لحكم الخليفة (واسمه مصطفى الأمين، وهو أحد أقرباء القاضي أحمد علي الذي أمر الخليفة بقتله) عن حكم الخليفة. جاء في التقرير الآراء التالية:
"مارس الخليفة في بداية حكمه طغيانا شديدا وغلظة منكرة مع شعبه. ولكن بعد أن استتب له الوضع بفضل مساندة قبيلته، ولإخماده كل الثورات المحلية ضده، بدأ يستفيد من تجاربه السابقة، وشرع في الحكم ببعض اللين والرفق، ولعله أصاب نجاحا في هذا المسعى الجديد. وتجري هنا محاول بطيئة ومتدرجة لتقوية ودعم هذه السياسة الجديدة للخليفة. وليس من المستبعد أن يواجه الغزو المصري للسودان (إن حدث) مقاومة من ذات القبائل التي كانت تؤيده وتطالب به، فهي ستعتبره تعديا على استقلال السودان. لقد توطن البقارة في مكانهم الجديد، وقبلت بقية القبائل بذلك. وهذا هو الشعور الأقوى السائد الآن في أم درمان وما حولها من القرى. أما في المناطق الطرفية حيث التأثيرات الأجنبية، فهذا الشعور هو في أضعف حالاته".
لعل سلاطين باشا هو أفضل من قدم صورة تفصيلية ودقيقة لإدارة الخليفة في سنوات حكمه الأخيرة. لقد هرب سلاطين من أم درمان في فبراير من عام 1895م، وقدم فور وصوله للقاهرة وصفا مفصلا للأحوال في السودان لوينجت. وكان ذلك العرض من سلاطين (عندما ينسى كرهه وعداءه الشخصي للخليفة الذي ظلل كتابه "النار والسيف في السودان") عرضا مفيدا وعميقا.
كان السودان في عهد الخليفة (كما كان عليه الحال في العهد المصري – التركي) مقسما إداريا لعدد من المديريات، غير أن عواصم تلك المديريات لم تكن محددة دوما، بل كانت تغير بحسب الضرورات الحربية. فكردفان ودارفور مثلا كانتا تداران أحيانا كمديرية واحدة، وأحيانا كمديرتين. وأعطى شرق السودان كله لعثمان دقنة ليديره منفردا. إلا أن ذلك الوضع تغير قليلا بعد سقوط طوكر. وكان الخليفة يعين لكل مديرية حاكما (أو أميرا) من قبيلته، كان يجمع بين السلطة الإدارية المدنية العليا، وقيادة الجيش أيضا. وكان يعاونه قاضي ومحاسب وكتبة وجامعو ضرائب، ويقوم الخليفة نفسه بتعيينهم (عدا الذين كانوا في مراتب منخفضة في الترتيب الإداري). وكان على حكام المديريات الحضور بصورة شبه دورية لتقديم تقارير للخليفة عن الأحوال في مناطقهم، أو لتلقي التعليمات من فمه مباشرة. وكان متوقعا منهم ألا يتخذوا أي قرار كبير أو مهم إلا بعد أخذ الإذن من الخليفة. وكان مجرد الشك في الولاء له، أو وجود ما يثبت سوء الحكم يكفي للعزل عن المنصب، وربما الحبس على الأقل، إذا لم يكن الإعدام. ومن الأمثلة على ذلك هو إعدام الأمير الزاكي طمل بالجوع والعطش في 1893م، واستدعاء يونس ود الدكيم من دنقلا لسوء إدارته عام 1895م، غير أنه نجا من أي عقاب إضافي.
وكانت أم درمان هي عاصمة الخليفة التي أسسها المهدي. وفي عهد الخليفة تمددت المدينة لمسافة أربعة أميال من الشمال للجنوب عى شاطئ النيل، ولميلين في العمق. وكان يسكنها كل أفراد الشعب من مختلف القبائل، وكانت تركيبة المدينة السكانية تتغير بحسب الظروف السياسية والأمنية. ومع تكاثر السكان ظهرت كثير من المشاكل الأمنية والصحية (المتعلقة بالنظافة العامة). فقد كانت المدينة تفتقر إلى المرافق الصحية والإضاءة. وبذل الخليفة قدر جهده وعلمه لحل تلك المشاكل دون جدوى. وأورد القس أورفالدر أن الخليفة مر ذات مرة وهو يتفقد المدينة بكوم من الأوساخ تنبعث منه روائح كريهة، فخطب في المسجد وقال للناس إنه إن وجد مثل تلك الأوساخ في الطريق بعد ثلاثة أيام فسينزل بمن تسبب في تراكمها أشد العقاب. ومنذ تلك الساعة صار كل فرد في المدينة مسئولا عن نظافة بيته وما حوله من مساحات. ولكن بدأ الناس بمرور الأيام يتناسون تلك الأوامر وعاد الحال كما كان. وإلى الآن لا أعتقد أن أم درمان هي مدينة نظيفة أو صحية بوجه خاص.
وكان للخليفة خيّالة يقومون على حفظ النظام العام، بالتعاون مع الأهالي. وكان الناس في كل حي ينظمون ليلا مراقبات شعبية لمنع السرقات التي شاعت في المدينة بسبب ظلامها الدامس الذي كان يشجع اللصوص على اقتحام البيوت وسرقتها. غير أن الخليفة بذل ما في وسعه لتقليل تلك الجرائم في أم درمان والأقاليم بإيقاع أغلظ العقوبات على من يقبضون متلبسين بمثل تلك الجرائم.
لقد كانت أكبر عيوب الخليفة الشخصية هي غروره واعتداده بنفسه ورأيه، وشكه الدائم في إخلاص من كانوا حوله. ولعل ذلك هو ما جعله ضيق الصدر بالرأي الآخر وبالنقد، وشديد الوله بالمدح والتمجيد والتزلف والملق. وكان يفرض على زواره (حتى يعقوب، يده اليمنى) إظهار التذلل والخضوع عند الوقوف أمامه، وألا يرفع أحدا من الناس عينيه أمامه. وتعلم الناس أن أقرب طريق لقلبه هو الإطناب في مدحه، والمبالغة في التزلف إليه، وإخفاء الحقائق عنه إن كانت ستسوئه، وإخباره بما يحب سماعه فحسب. لقد كان حكمه فرديا ومركزيا ومستبدا. كان يحاول السيطرة على كل الأمور في البلاد، صغيرها وكبيرها، فلا شأن في البلاد يقضى دون سؤاله والعمل بما يقوله هو. وكانت تلك المهام الجسام تستغرق يومه كله، إذ كان يعمل من الفجر حتى وقت متأخر بالليل، لا تشغله عن العمل إلا الصلاة في المسجد. صحيح أنه كان يعرض بعض الأمور على مجلسه (المكون من كبار الأمراء وبعض القضاة)، غير أن ذلك المجلس لم يكن مجلسا رسميا له رأي ملزم، بل كان صدى لما يقرره الخليفة سلفا. وكان ما يقرر في ذلك المجلس يعلن للشعب، ليس بحسبانه قرارا من المجلس، بل كإلهام أو أمر رباني أو نبوي أو رؤية (حضرة) جاءت للخليفة (انظر مقال كيم سيرسي المترجم بعنوان "الخليفة وتطبيع السلطة الكاريزمية". المترجم).
أما مقدرات وشخصية الخليفة فلا خلاف على أنها كانت من الطراز الأول. فقد تمكن من خلق نظام للحكم من وسط فوضى عارمة. ونجح ذلك النظام (على ما فيه من علات وثقوب) في العمل لثلاثة عشر عاما متصلة. وبالنظر إلى الظروف التي عمل فيها، وبالإمكانات التي كانت تحت يديه، فلا مشاحة في أنه إداري حصيف، لا يمتلك سحر المهدي وجاذبيته، ولكنه يفوقه في قوة الشخصية والعزيمة، والسرعة في اتخاذ القرار الحاسم (مهما كانت نتائجه)، والشدة والغلظة في عقاب المخالفين. وظل الخليفة في حياته الخاصة رجلا بسيطا ومستقيما، فبيته كان متواضع الأثاث، وملابسه وطعامه لا يختلفان عن ملابس وطعام غيره من عوام الناس في الغرب الذي أتى منه. وقد يقول قائل بأنه كان يحتفظ لنفسه بعدد كبير من الزوجات والسراري (الحريم)، غير أن ذلك كان أمرا شائعا ومألوفا عند الرجال المعروفين في ذلك الزمان. ولم يكن يتزين بملابس خاصة إلا عند الخروج على الناس في أيام الجمع ليظهر بمظهر حاكم البلاد. وكان رجلا شجاعا مقداما لا يختلف الناس في شجاعته، ولكنهم قد يختلفون في الحكم على توقيتها.
لم يكن الخليفة رجلا محببا بحال، ولكنه بالقطع كان رجلا صلدا قوي المراس.
***** **** ****
بعد ختام المحاضرة أجاب المحاضر على أسئلة وتعليقات بعض الحاضرين وكان منهم الدكتور مكي شبيكة، والذي علق على عدد من النقاط التي أثارها المحاضر، اخترت منها التالي:
"أما بالنسبة لود النجومي، فقد بعثه الخليفة بعدد قليل نسبيا من الجنود مفترضا أنه سيلقى عونا من سكان جنوب مصر (لاعتقاده بأنهم كانوا مهيأين للانتفاضة على حكامهم، ويتوقعون قدوم جيش المهدية). وبالنسبة لاختيار حملة انقاذ غردون للنيل سبيلا للوصول للخرطوم، فقد يكون السبب هو الحرص على البعد عن أي انفجار للثورة يكون في صالح المهدية. وبالنسبة للسيطرة على طوكر، فأعتقد أن نشاطات الإيطاليين على ساحل البحر الأحمر كانت إحدى العوامل التي سهلت سيطرة البريطانيين على طوكر، وأحد العوامل أيضا في اقتناع الحكومة البريطانية بالتدخل في السودان.
وأعتقد أنه من حسن حظ دارسي المهدية من الباحثين الصغار توفر الوثائق التي عثر علها بعد معركة كرري، والتي هي الآن في حوزة أرشيف السكرتير الإداري".
المترجم
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.