لقد صار الوضع الذي عليه البشر اليوم يدعو للقلق والهم. ما هو مصير الإنسانية الذي تسير نحوه؟ يقول حاج حمد: "مهما تفلت فلاسفة الغرب من الوضعيين فإن (جدل الطبيعة) هو نهايات صياغاتهم إلا أن يحدثوا تغييراً جذرياً في النسق الحضاري والرؤية الوضعية". فقد ظن الكثيرون بأن العلوم أجابت على كل تساؤل ثم ظنوا أن المشكلة تكمن فقط في وسائل تبادل المعلومة (اللغة مبنى ومعنى) بما في ذلك لغة الرياضيات وهي فكرة حصروا بها الموجود المعقول في إطار الحسيات متجاهلين عن كل بعد آخر للوجود يمكن للعقل أن يبحث فيه. ولعل هذا ما أقلق فوكوياما الذي "لم يعطي أي قيمة معيارية لتفعيل لا محدودية الإنسان في مستقبله الليبرالي كنهاية للتاريخ" لقد صارت الإنسانية اليوم مريضة كمن نصفه مشلول ويسير على قدم واحدة. ثورة العصر العلمية التي استحوزت على عقول البشر عبر منطقها ومنتجها من رفاهية وتطور وتحسن في ظروف الحياة المادية نتج عنها تباعد للبشر عن محتواهم الروحي ونتج عنها تباعد متعمد بين منطق الطبيعة ومنطق ما وراء الطبيعة والذي فيه تم الإنكار الكامل للتجارب الذاتية الأمر الذي حول الإنسان إلى مجرد حيوان عاقل ومتطور. الإنسان فوق الحيوان بروحه وأخلاقه وتساميه بالدين. لا يوجد فارق كامل بين الإنسان والحيوان إلا الدين. فالحيوانات تشارك البشر في معظم صفاتهم (بدرجات تتفاوت) إلا الدين فهو الخاصية الوحيدة التي تفرد بها البشر، وسببه هو الروح المنفوخ في روعهم. نحن منغمسون أكثر من اللازم في العالم المادي وحاجاته، لدرجة يمكن وصفها بالحالة المَرَضية. هذا الوضع قد أحدث ربكة وجودية في وعي الإنسان. مصدر هذه الربكة هو حالة وجودية خاطئة، إنها البداية الخاطئة. بدلاً من أن تكون أرواحنا لباساً لأجسادنا وغطاءً لها صارت أجسادنا غطاءً لأرواحنا؛ فصرنا جاهلين ببعدنا الروحي وصرنا مرعوبين من الموت وصرنا مأسورين بنفوسنا وحاجاتها الجسدية. على هذا النموذج الوجودي المعرفي (Paradigm) قامت كل الحضارات بكل جوانبها السياسية والإجتماعية والإقتصادية. وحتى الدين لم يجد أمامه طريق غير التعامل مع هذا الواقع الذي فيه البشر، فصار لا يكلف البشر إلا وسعهم وهو وسع ضيق. لن يحقق البشر سعادة إلا بانتصارهم على نفوسهم وانتصارهم على الموت. ولن يتحقق ذلك الإنتصار إلا بالتأكيدات الروحية "العلمية الوضعية التجريبية" التي بها يوقن الناس بأن الموت ليس النهاية. الموت هو البداية في حقيقة الأمر، وحينها يفقد الموت مفعوله الرعبي المخيف. لقد صدرت أوروبا إلى العالم كل الحداثة بما في ذلك القلق الوجودي. [email protected].com