هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اوجولو ... ضوء علي الانفصال
نشر في الراكوبة يوم 19 - 04 - 2017

اللبناني جرجي زيدان اثر كثيرا علي تفكير العرب وحتى علي غير العرب من امثالنا ، لأننا تأثرنا برواياته التاريخية وما عرف بالشقيقات الثلاثة.. مجلة الهلال وكتاب الهلال وروايات الهلال . جرجي زيدان عاش اغلب حياته في القرن التاسع عشر وتوفي قبل عشرينات القرن العشرين
. نحن في السودان ليس عندنا روايات تاريخية . الرواية التي اشتهرت قديما في السودان هي اسير المتمهدي . وهنالك فرق بين الرواية التاريخية والسيرة الذاتية . فجرجي زيدان كان من ضمن الحملة التي ارسلت الى الخرطوم لانقاذ غردون . والرواية كتبها جرجي زيدان مع روايات تاريخية كثيرة ، منها . غادة كربلاء ، صلاح الدين الايوبي : عبد الرحمن الناصر ، عذراء قريش الخ .
المصريون تقبلوا جرجي زيدان لنجاحه . كما افتخروا بالشامي الآخر جورج ابيض اب المسرح . وقبلها هللوا للشاعر الكردي التركي امير الشعراء احمد شوقي والممثل السينمائي نجيب الريحاني واحبوه كثير بسبب فلم غزل البنات بالرغم من ان الفيلم فضيحة كبيرة فهو سرقة مججلة للفلم الامريكي ، مثل عشرات الافلام منها الخرساء و السبعة العظام الذي هو في الاصل ياباني قديم اسمه الساموراي السبعة ولكن هوليوود اشترته .. وهي نفس القصة والسيناريو . وانا اورد هذه المعلومات واتوقع ان يقبل اهلي في الشمال اوجولو وقصته ويحبوه مثل ما احببناه واحبه صديقه الاخ هاشم ابو رنات . ولهاشم نرفع القبعات وننحني لهذا الجهد . وكما مزكور في الكتاب فإن هذا هو الجزء الاول . وليكن هذا مثل ملامح من المجتمع السوداني الذي رواه ابراهيم بدري علي ناظرنا في سنجا عبد الله عندما كان ابراهيم بدري المفتش وقتها . او كتاب مذكرات اغبش للأستاذ عبد الله رجب الاخ
. وهذا الاسلوب معهود وجيد وقد يتكاسل او لا يقدر او يريد البعض الكتابة ويسخر الله رجالا ونساء للقيام بهذا الجهد .
كتاب اسرار جهاز الاسرار من اروع الكتب التي اعيد قراءتها مرات ومرات . ولقد اشتهر الكتاب بسبب صدق الكاتبين . محمد عبد العزيز وهاشم ابو رنات . كثيرا ما يتجاهل الناس اسم الاستاذ محمد عبد العزيز وينسب الكتاب كثيرا للأخ هاشم فقط بالرغم من ان الاستاذ محمد عبد العزيز كان اعلى رتبة من الاخ هاشم . ولكن هذه هي الدنيا تتصرف بطرق غريبة . انا احد الذين لم ينصفوا الاستاذ محمد عبد العزيز . الاثنان بطلان ، اسديا لنا خدمة كبيرة ، وعرفنا معلومات غائبة عنا . عرفنا ان كل رجال الامن لم يكونوا عملاء لمايو ، وان الامن كان عنده فايل للجميع حتى نميري نفسه .
وعرفنا ان حل جهاز الامن الذي هللنا لحله كان خطأ كبيرا . لأن جهاز الامن لحماية الوطن قبل الحاكم .
كتاب اوجيلو قد يكون بداية للرواية التاريخية . ولكن الفرق هنا ان اوجيلو ظابط المظلات يملي كتابه على صديقه الاخ هاشم ابورنات . ولقد صدر له كتاب ... اوجيلو قصة من جنوب السودان ... قبل عشرة سنوات . ولقد بادر بإهداء الكتاب لي مشكورا . ولكن كعادة الكثير من السودانيين اختفى الكتاب الى ان وجدته قبل فترة قصيرة عند صديق ، لم يقم حتى بفتحه وربما اعجبته لوحة الفلاف الجميلة فقط ! اظن انه يجب ان تسن سنة جديدة وهي مقاطعة والتشهير بسارقي الكتب !!!
الكتاب ليس رواية بمعنى الرواية بحبكة قصصية ،وعقد والغاز تحل في نهاية الرواية الخ ، انها قصة حقيقية ينقلها الكاتب هاشم ابو رنات بصدق . والكتاب من 195 صفحة من القطع المتوسط . الغلاف تصميم خالد حاج الامين ... احمد زروق
اوجيلو من الانجواك الذين يتواجدون حتى داخل اثيوبيا ومركزهم الناصر ولكن يتواجدون على طول الحدود الجنوبية مع اثيوبيا . اوجلو من قرية ,, بلدة ,, فشلا .فشلا علي الحدود الاثيوبية يميزها الجسر الاستراتيجي الذي نسف في انتفاضة الجنوبيين الاولي في 1955 . ويشاركون اشجع سكان هذا الكوكب السكن ، وهم المورلي . في البيبور ولكونقلي وجبل بوما والمناطق المتاخمة . ومثل الشلك لهم سلطة مركزية . الرث يمثل السلطة القضائية والروحية . والرث يتم انتخابه ديمقراطيا .
في نهاية الخمسينات اعيد بناء كوبري فشلا وحامية اكوبو علي نهر اكوبو والبيبور على نهر البيبور . ولأن الارض طينية في تلك المنطقة . فلقد كانت الرمال والحصى تاتي من ام جلالة والجبلين في النيل الابيض بالبواخر الى ملكال ثم تنقل في جوالات الخيش مع الاسمنت بالشاحنات الي شرق اعالي النيل مرورا بارض النوير لاو . ولقد كنت ارافق القندرانيات في الاجازة المدرسية وانا في الثالثة عشر . فلقد فاز الخال اسماعيل خليل والعم محمد عبد الله عبد السلام بالعطاء . وازداد حبي وارتباطي بالجنوب مثل الاخ هاشم والكثيرين .
يعرف القارئ ان اوجلو ظابط المظلات كان جريحا في يوغندة واتصل بصديقه وزميل السلاح الاخ هاشم ،
وكانت كتابة الكتاب الذي يجب الاطلاع عليه ودراسته ، لانه يعطي القارئ الشمالى في المكان الاول معلومات غائبة . والبعض قد لا تهمه هذه المعلومات ، الا انها تسلط بعض الضوء على لماذا انفصل الجنوب . والقصة قصة جنوبي يكتب للشمالي والجنوبي . الاخ هاشم عاش في الجنوب وعمل في الجنوب وفي بداية تعليمه درس في مدرسة البندر الاولية في ملكال . في حديثي معه تطرقنا لملكال ووطني الاول ... الجنوب .
في الحديث عن ملكال التي درسا وعشت فيها سنين عديدة قبل هاشم ، عرفت انه زامل الاخ عبد الاله في مدرسة البندر . وعبد الاله ابن خالة زوجتي مثل اخوته الكثيرين . والسيدة ايجيلو طيب الله ثراها هي والدة اوجينا ومريم كريمات العم برونو والد ام اربعة من اطفالي آخرهم العم برونو الذي حمل اسم جده الرجل الطيب الذي عرفته كل ملكال . قد يظن البعض ان هذه الامور الشخصية لا دخل لها بالكتاب . ولكن ارتباط الاخ هاشم بالجنوب ملكال وفشلا واكوبو والبيبور جعل اوجولو يتعامل معه كأبن بلده واخيه . وهذا الحب والحميمية ما فقدناه ، وكان احد اهم الاسباب في انفصال الجنوب . شكرا العزيز اوجولوبن اكوي ، شكرا العزيز هاشم ابورنات .
اعتراضي على هاشم في استعمال كلمة التمرد بينما انا اشير دائما الى الانتفاضة . واجد غرابة في اسم حبيبة اوجولو وزوجته ,, داقي ,, فداقي اسم رجل عند الشلك . والبارحة ابدت جدة ابنائي استغرابها عند سؤالها عن الاسم .. فاسمها عشة داقي وهي مقيمة معنا في السويد مع اثنين من بناتها واحفادها وابنها في السويد . شقيقها محمد داقي صاحب التاكسي المشهور في ملكال . وهم احفاد الرث العظيم داقي . بعض الاسماء تتشابه عند الانجواك و كل النيليين للنساء والرجال مثل اوجولو وايجيلو وشول واشول وجاك واجاك . ولكن اسم داقي اسم رجل فقط .
وهذا هو الجزء الاول ..... وأنا آخذ منه لمحات .
انك لا تذكر يا صديقي تماما ذلك اليوم في عام 1970 فانا اذكر انك حضرت بعدها بيوم . كنت انا في الحادية عشر من عمري وبرغم صغر سني فانني لازلت اذكر تلك الفترة تماما . فلقد كانت فترة مليئة بإثارة لا زالت عالقة بذهني خاصة ذلك اليوم الذي اخفاني والدي ,, اكوي ,, في الخندق الذي لا يتعدي المترين طولا ومترا في عرضه ولكن لأن الامر كان جللا فقد كان يبدو لنا متسعا ... وكان كل منا يضم الآخر في فزع وخوف حقيقي عندما نسمع الانيانيا يصرخوم .
انيانيا تقدم .
يعقب ذلك هدير الرصاص ... ثم صوت المدافع الاوتوماتيكية ... ثم يأتيك من خندق مجاور صوت فزع لإمرأة او نسوة ... مختلطا بأنين جريح اصيب او صوت مكتوم لشخص يموت .... سيطر على الخوف بكل اوجهه واحتضنت اختي أموت التي تكبرني بعام بينما كنت اسمع امي تبكي بكاء متقطعا بحيث انها لا تريدنا ان نسمع ... ولكنها لم تستطع من كتم تلك الهنات المتقطعة ... وهج الطلقات المنطلقة من مدافع آر بي جي يكاد يخطف ابصارنا فنطوي انفسنا داخل الخنادق بينما يلفحنا لهب ساخن جعل القرية كلها مشتعلة بالنيران وصرت ارى كل شئ وكاننا في وضح النهار ... كل الاكواخ اشتعلت بالنيران وصرت اسمع صراخا حادا لطفلين وصرخت انا ايضا باعلى صوتي وداخلني فزع مميت واصوات تأتي مختلطة .
...انيانيا تقدم
....يا عبيد يا اولاد الكلب
....الليلة تمشو وين يا عرب ؟
وارفع رأسي قليلا حتى اعرف ما يجري وفي ضوء اللهب لمحت رأسا امامي وعرفت الوجه كانت .. ,, نجاييك ,, زوجة عمي المشهور بإسم ,, جاري كوبر ,, حاولت ان اناديها لتدخل الخندق ولكني رأيت بطنها مبقورا ... لقد مزقتها شظية .... كان منظرا مخيفا سيطر على احلامي لسنين عديدة ... انني اذكر ان الناس قد جرحوا وقد ماتوا وان الجيش مات منه الكثيرون ... وان هنالك جثث للخوارج ... الجيش يقول انه انتصر وبعض اهلنا الذين فقدوا الكثير يهمسون بأن الخوارج انتصروا ...
في الخامسة صباحا هدأت المعركة ولما خرجنا من الخنادق كنا نري الانيانيا في واجهة المطار وفي الطرف الآخر الجيش .. كل منهما يحاول لملمة اطرافه وواضح ان الجميع في حالة من الاعياء لاتمكنه من مقاتلة الآخر رأيت بعض الجرحي من الجيش يطلبون الماء بينما كانت الانيانيا تجر جرحاها الى الطرف الآخر من النهر .. كانت وجوه الجميع مسودة وغبرة وكانت الجثث منتشرة في كل مكان بعضها بلا رؤوس واخرى متفحمة وآخرين ميتون كأنهم نيام .
بدأ الجيش يلملم جثث قتلاه ويحفر القبور . وسمعت الممرض يقول ان الجثث التي لا يمكن دفنها سوف تجلب المرض ولا بد من حرقها .
..........................
هرع الجنود بسرعة نحو المطار الصغير الذي كان هو نفسه مسرحا للقتال في اليوم السابق ... هرعوا ... وبدأوا في يجرجرزن الجثث المتناثرة حول المطار ... ثم بدأت الطائرة في الهبوط عموديا الي المطار . جعلنا نجري بعيدا في خوف ظاهر ... هدأت حركة الطائرة ونزل منها كابتن الطائرة ... رجل اصلع الراس خفيف الحركة .
عندما هبطت الطائرة كانت تحمل معها بعض الذخائر وبعض الجنود المدججين بالسلاح وكان احدهم برتبة العريف ويلف حول جسده شريط ذخيرة للمدفع عيار 42 بينما برزت من بين عضلات يديه تعاويز ملفوفة ومجلدة هذه تعاويز يسميها العرب بالحجاب ويزعمون انها تقي من الرصاص ... جري الجنود في حركة دفاعية حول الطائرة وكان بعضهم يحتضن رفاقه ويجهش بالبكاء ... وكان هنال فريق يفرغ الطائرة من حمولتها من الذخائر والتعيينات والتي كانت عبارة عن صناديق البلوبيف والرغيف الجاف الذي يسمونه بالقرقوش .
كنت انا جوعانا جدا وقد شاهدت امي تشعل النار وتضع عليه قدرا من الماء توطئة لصب الدقيق عليه ... هرولت وجلست امام النار وكنت اسحب عيدان القش الرفيعة من تحت النار واقرقشها برمادها .
في ظل هذا التوتر بدأ الجنود يطلقون الرصاص عشوائيا في ظل اي شاردة او هفة نسيم وكان البعض يزعم ان اشباحا قادمة ... وزاد الامر سوءا هطول الامطار بشدة واصوات الرعد تزمجر ولم يكن هناك مفر من تحمل كل هذا المطر داخل الحفر التي صنعها الرجال كخنادق لنا وشق علي الامر بعد ان امتلأت حفرتنا بالماء حتى نصفها .
.......................
وانا في مثل هذه السن كان لا بد لي من اعمل عملا مفيدا والعمل المفيد الذي كنت اؤديه هو انني كنت اعمل خادما مع الرقيب حسن الذي تزين وجهه ثلاثة علامات عرضية على خديه ويسمونها في السودان بالشلوخ التي تميز بها القبائل عن بعضها البعض . وكان حسن من قبيلة الشايقية والتي هي من قبائل شمال السودان ... وقد اشتهر بأنه كان هادئا وحازما .
في ايام تلك المجاعة اذكر انني قايضت قميص الرقيب حسن بكيلة من الذرة واشتري والدي القميص ومنح حسن الذرة من المطمورة الخاصة بنا . وكان والدي سعيدا جدا بهذا القميص الكاكي والذي اصبح من ساعتها زيه المستديم .
تغيرت احوالنا وتحسنت كثيرا بعد هذا الهجوم الذي شنته الانيانيا بقيادة رجل من الدينكا اسمه بيتر مابيل وقد سمعت ان معه اثنين من ابناء قبيلتنا الانجواك وهما اليجا منجواك واستيفن اقوت ... بدأنا نشاهد الطائرات العمودية وهي تحضر ا الذخائر والعتاد . وعندما بدأت المياه تجف في الارض الطرقات وبانت طرق العربات صالحة للسير ظهرت في منطقتنا ارتال من الشاحنات وهي تحمل المؤن .
ويبدو ان الحكومة بدأت بدأت تهتم كثيرا بمنطقتنا فقد شاهدنا المسئولين الكبار يحضرون الى قريتنا محمولين على العربات واحيانا الطائرات ... ويجمعونا ويخطبون فينا وكان ما يثير عجبي انهم جميعا كانوا ضخام الاجسام مع وجود بروز في بطونهم واضح وكأنما النساء يحملن جنينا لم اكن اعر كلامهم اهتماما كبيرا اذا كان كل ما يهمني هو ان اتفرج على ملابسهم وعرباتهم الجميلة وتلك الاحذية اللامعة التي يرتدونها ولقد عجبت يوما كثيرا لأحدهم ويسمونه المدير لانه كان يشرب الماء من اناء جميل جدا وكان الماء صافيا فنظرت الى الاناء ووجدت حبيبات من الماء تندلق منه بانتظام فحضرت من خلف الاناء ولمست الماء فلسعتني يرودة شديدة لم اتعهدها من قبل فنفضت يدي وجريت ... وسمعت الجمع الذي لاحظني يقهقه من ورائي فأغتظت ... وكان اكثر ما اغاظني هو ضحك صديقي ونديدي اوكيلو .
جاء الصيف ... وبدأت تنقشع عن القرية وما حولها خضرة الخريف وصار لون القش اصفرا ... وبدأت ارتال من الحيوانات تتراءي عند الافق وكان اشهر الحيوانات هو نوع من الغزلان يسمي التيتل والذي كان لحمه احب اللحوم الينا او بمعنى ادق اكثر ما نستهلكه من اللحوم لتوفره . وكانت قطعان الافيال تظهر لنا بعيدا في الافق عند الصباح وفي الاصيل ومن ثم تتجه الى النهر لتستحم وتشرب المياه . وعندما يحين المساء نسمع زئير الاسد .
كانت تجارة جلود الحيوانات من اهم السلع في منطقتنا ولذلك كان بديهيا ان ترى الاهالي ينشرون الجلود على اشعة الشمس بعد نظافتها والزائر الى القرية عند مروره على طرقاتها الضيقة يجد جلود جميع الحيوانات بدأ بالتمساح ومرورا بالاسد والنمر الى جلود الفيران ... ان سلطان القرود يعيش في الاشجار العالية وهو يتمتع بلون ابيض واسود موزع حول جسمه بطريقة جميلة . ولكن القرد الذي كنا نهابه فهو القرد المسمى بلغة العرب ,, بالتقل ,, فهر قرد ضخم يسير في جماعات ويتمتع بشرلسة طبيعية ويجيد القتال .
سافرت القوة القديمة من الجيش وتم احلالها بقوة جديدة الا ان مؤخرة القوة
القديمة لم تغادر والتي كان يشرف على سفرها الرقيب حسن . .. وهكذا استمر برنامجي مع الرقيب حسن . .. الشاي وابريق الماء في الصباح ثم اشعال نار الفطور وبعد ان يجهز الفطور انال نصيبي ثم اقوم بغسل الملابس وتطبيقها بعد جفافها ووضعها تحت ثم اذهب والهو بينما تقوم بقية القوة بلعب الكوتشينة والضمنة ... وعند ظل الشجرة الكبيرة يكون السلطان قد اعد له شرابه المسكر والذي يتناوله في هدوء عبر شفاطة من القش المجوف بينما هو غارق لأذنيه في في حل ومناقشة مشاكل الاهالي . وكنت دائما ما ارى الملازم بلال يشاركه تعاطي تلك الخمرة وبشاركه جذب انفاس من البايب المحلي المعروف في السودان بالكدوس الذي يستعمل فيه نوع من التبغ المحلي المعروف بالكتكت . وعند مغيب الشمس يبدا واجبي بأن اذهب الى ام أوشينق فاحضر له نصف زجاجة من المشروب المحلي المعروف بالعرقي ثم اضع له فراشه في موقعه في الفناء المتد ... وهكذا كان برنامجي وكنت افكر ايامها اذا ما سافر الرقيب حسن فمن يا ترى سأجده مناسبا فاعمل معه فحسن هذا رجل طيب ولم اسمعه مرة يسبني ولم يضربني كما كان يفعل كثير من ناس الجيش مع الخدم الذين يعملون معهم .
....................
...اوجيلو
...نعم
... تمشي معاي يا مقطوع الطاري
...وين ؟
قال الرقيب حسن وعيناه تبرقان
...شندي ... شندي بلد الجمال عندي
... شندي ده وين ؟
...هناك جمب الخرطوم
كان هذا الحديث بالنسبة لي مفاجئا وكان اقصي امنية اي واحد منا نحن الصغار ان ترى بام عينيك الخرطوم التي نسمع عنها حكايات كالاساطير بل كان من يصل منا الى البيبور او اكوبو فقد وصل مكانا هاما جدا ... تراجعت الى الوراء ثم اقدمت خطوتين الى الامام ...
... انت يا فرخ مغفل فوت كلم امك ... ابوك انا بكلمه .
نواصل
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.