قال وزير المالية أن الخدمات تطورت خلال العشرين سنة الماضية مليون مرة. هكذا دون أن يرف له جفن أو يغمض له طرف ودون وخزة من حياء. دون شك فإن وزير المالية يقصد أن الخدمات تدهورت وليس تطورت في ظل الإنقاذ. يقول المثل، إن كنت كذاباً فكن قوي الذاكرة. هل نسى وزير المالية حديثه عن معاناة الشعب الاقتصادية والخدمية منذ أن تسلم مقاليد هذه الوزارة أن يستبدل شعب السودان الرغيف ب (عواسة الكسرة)؟! وفي المناقشة الحادة التي جرت عند مناقشة تعديلات موازنة 2013 وطالب بعض النواب بإستقالته أن الحالة الإقتصادية والخدمية لن ينصلح حالها حتى لو قدم استقالته؟ وهل ينسى السيد الوزير أنه طلب من نواب المجلس الوطني عند مناقشة تقرير الربع الأول من عمر الموازنة أن يؤدوا صلاة الاستسغاء لينصلح الحال. هل غاب عن ذاكرته ما قيل عن أن الوزارة تتخذ القرارات السليمة ولكن يأتي نقض لها وتعديلات من جهات عليا متنفذة؟ وان الوزارة عاجزة عن إدارة المال العام. السيد وزير المالية يعلم أكثر من غيره التردي المريع الذي وصلت إليه الحالة الاقتصادية/المالية والخدمية في البلاد والتي لم يُشهد مثيل لها حتى في ظل الحكم الإستعماري. منذ ذلك الوقت وقبل مجئ الإنقاذ، كانت خدمات الصحة والعلاج ونظافة الشوارع ونقل النفايات وإضاءة الطرق عبر راكبي الحمير والدراجات مجاناً. وكذلك كان التعليم، وقيمة رمزية للماء وشبه مجاني لماسورة (النقاطة). فهل يقارن وزير المالية ذلك بما عليه الحال الآن. أن آخر موازنة أقرها البرلمان قبل انقلاب يونيو 1989م سيراً على نهج الموازنات التي سبقتها كانت تضع تقديراً مختلفاً لما درجت عليه الموازنات بعد الإنقلاب. فميزانية 1989م التي تمت اجازتها قبل يوم من الإنقلاب كان حجمها 800 مليون دولار بسعر اليوم. ومقسمة كالآتي: 25% للمرتبات والأجور. 25% للتنمية. 20% للخدمات (التعليم والصحة الخ..) 10% الحكم المحلي. 10% للتسيير. 10% لسداد ديون البلاد. الآن انقلبت هيكلة الموازنة رأساً على عقب. فمنذ انقلاب الجبهة تحولت اسبقيات الموازنة لخدمات 4 فصول تخدم نظام الرأسمالية الطفيلية والقابضين على مفاصل السلطة والثروة فيها وأجهزة أمنها وقمعها. خلافاً لحديث السيد وزير المالية فإن نصيب الخدمات هبط من 20% إلى 1⁄21% بما فيها لصحة والتعليم وغيرها. ولهذا فإن الدولة لا تقدم أي خدمات تذكر للمواطنين. عكس ذلك ومع خصخصة المستشفيات ومرافق التعليم من رياض الأطفال والجامعات بل حتى نقل النفايات ناهيك عن التكلفة المتزايدة للماء والنور والدفع القسري لها بربط فاتورة ماء الشرب مع الكهرباء. كل ذلك يوضح أن السيد وزير المالية يتحدث عن خدمات في بلد آخر غير السودان. الواقع يفضح ويعري حديث وزير المالية. أرتفعت أسعار أسطوانة غاز الطهي بنسبة تصل إلى أكثر من 200%. وأن سعر 3 قطع من الخبز زنة 35 و105 جراماً بلغت واحد جنيه. ويزف لنا المدير العام للهيئة القومية للمياه بخبر مفاده أن فاتورة المياه ستزيد إذا لم تدعم الدولة الهيئة. هذا تأكيد مبطن للزيادة في فاتورة المياه. لأن واقع الحال يقول أن الدولة لا تستطيع أن تدعم أي سلعة أو جهة خدمية لأنها تزيد من أسعار السلع كما حدث مع الزيادة في المحروقات. من أين لهذا هذا الدعم والواقع يقول: عجز الموازنة يتزايد بإضطراد سنوياً. فقد أرتفع من 4 مليار جنيه في 2011م إلى 6 مليار جنيهاً في 2012م ثم إلى 10 مليار جنيهاً في العام الحالي 2013م. وكل المؤشرات توضح أن موازنة 2014م ستتصاعد بنسبة أكبر مما كانت عليه في السنوات الماضية بسبب ارتفاع الديون الداخلية والخارجية. وإحجام عدة دول ومؤسسات مثل شركة تالا السعودية التي تستثمر أكثر من 2.5 مليون فدان في الزراعة وغيرها من المستثمرين امتنعوا عن مواصلة الاستثمار بسبب الارتفاع الكبير في سعر جالون الجازولين من 8 جنيهات إلى 14 جنيهاً. رفض مراجعة 42.5 مليار دولار. وتزايد الدين الداخلي في شهامة وغيرها حتى وصل إلى 11 مليار جنيه. تصاعدت الفجوة في الميزان التجاري حتى وصل إلى 6 مليار جنيهاً سنوياً. انخفاض مريع في قيمة الجنيه السوداني إذ فقد أكثر من 75% من قيمته بعد انفصال الجنوب. كيف تتم تغطية هذا العجز والتدهور الذي يبشر بالإنهيار في غياب أي دخل انتاجي. فحكومة الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة التي لا يربطها أي رابط مع الإنتاج صناعياً أو زراعياً ولا حتى عائدات الخدمات المملوكة للدولة، بسبب التصرف فيها بالبيع والخصخصة والأيلولة وغيرها من المسميات التي استهدفت جميعها بيع ممتلكات الشعب التي كانت تكفي معيشته وخدماته وتدر فائضاً نسبياً من العملات الصعبة. ولهذا بدأت الأسعار في الارتفاع مباشرة بعد (الإجراءات الإصلاحية) اسماً والتخريبية قولاً وفعلاً، رغم أن الدماء التي سالت من الشهداء الذين تظاهروا بسبب الغلاء وانعدام الخدمات لم تجف بعد. وسنرفع جميع اسعار السلع مرة أخرى وستتضاعف الضرائب على كل الخدمات. إن إعلان البرلمان عن تعديل مشروع الموازنة لإستيعاب زيادة الأجور، هو إعلان مبكر لمواصلة الزيادات في الأسعار. وهو إشارة بطرف خفي لتجار الإنقاذ أن يخزنوا سلعهم لإمتصاص الزيادات المعلنة. هذا ما درجت عليه سياسة الإنقاذ منذ مجئيها للحكم. القضية ليست في إعلان البرلمان عن تعديل مشروع الموازنة كما ورد سابقاً. ولكن القضية تكمن في السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاج: لماذا لا تعاد هيكلة الموازنة. كما كان عليه الحال قبل الإنقاذ لتصبح الأسبقية فيها للأجور والمرتبات والخدمات والتنمية وليس لأثرياء الرأسمالية الطفيلية والرتب العليا للقابضين على السلطة والثروة وأجهزة أمنها وقمعها. لماذا لا يوقف الخضوع لأوامر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإلتزام بتحرير الاقتصاد وزيادة الأسعار وتصعيد الضرائب والجمارك وسلعة الخدمات. كل هذا لن يتم في ظل هذا النظام الذي يحاول ترقيع شملة كنيز الثلاثية وقدها رباعي. ربع قرن من الزمان وهم في الحكم يرهنوا على فشلهم ولا انعتاق من الأزمة إلا بإسقاطهم. الميدان