في أواخر أيام الفترة الديمقراطية 1985 – 1989 وفي ذروة الحملة الاعلامية الشرسة التي كان إعلام الجبهة القومية الاسلامية يشنها ضد النظام ورموزه لتهيئة الناس للنظام البديل الذي كانت مؤامرة إستيلائه على السلطة بذريعة إنقاذ البلد تمضي على قدم وساق. حسين خوجلي عبر ألوانه يشن حربا ضارية على النظام وعلي عثمان يغازل الجيش علنا، وبتبرع نوّاب الجبهة بسياراتهم للجيش! يا للمهزلة! وحين آل إليهم الأمر، إستولوا على كل شئ، لم يتوقف الأمر على سيارات، لكن أيدي النظام ومحسوبيه الآثمة إمتدت لتقتلع اللقمة من فم أطفال السودان وتحولها لبنوك ماليزيا وغيرها من دول العالم. حرموا الشعب كل حقوقه من علاج وتعليم. كانت تلك مجرد إستعراضات خادعة، مجرد مناظر لفلم الرعب الذي كتب على أهل السودان مشاهدته. تنظيم كان الكرسي هو مبلغ هم أعضائه ، الكرسي الذي سلكوا إليه كل سبيل، وتشبسوا به حتى والوطن يعبر من بين أقدامهم نهرا من الجماجم.. في تلك الفترة كان مقررا أن يقوم السيد رئيس مجلس رأس الدولة بزيارة الى دولة مالطا. يبدو أنه حدث شئ ما أدى لالغاء الزيارة. وجدها أهل الجبهة القومية سانحة لا تعوض للنيل من هيبة النظام، في معرض إعداد الرأي العام لتقبل وضع بديل سيعيد هيبة السلطة وقوتها. تحدث أحدهم عن الدولة التي باتت بلا رأس لدرجة أن دولة صغيرة مثل مالطة ترفض استقبال رأس دولتنا! ثم أردف ساخرا من الرأس نفسه: قائلا أنه لا يعرف لم يريد الرأس السفر الى مالطا، مفسرا الأمر: ربما يريد أن يؤذن هناك!. ثم مرّت الأيام، لا كما قال المغني، كالخيال أحلام، بل كما ستقول الكارثة التي ستسمي نفسها إنقاذا، ملايين الجماجم ستعبر تحت الجسر، سيشيد الانقاذيون دولتهم على أشلاء وطن وأشلاء حلم في دولة موحدة يسودها العدل وتسري فيها روح القوانين والمواطنة التي تساوي بين بنيها في الحقوق والواجبات. يختل كل معيار وكل قانون. تتراجع القيم أمام قيم رأسمالية جانحة (قطعوها من راسم) وقطعوا بها رؤوس قيمنا ورؤوسنا أيضا. الآن وبعد ربع قرن من حكاية مالطا. لا يستطيع الرأس الانقلابي (الذي إستعاد هيبة السلطة في السفر) أيضا أن يسافر الى مالطا أو الى أي مكان. لو أراد السفر الى أية دولة في الجوار عليه الحصول على موافقة مسبقة من الدول التي سيعبر اجوائها والا سيكون مصير طائرته الطرد من كل الأجواء، رغم أنها (تطفئ) الأنوار وتسير تحت أسماء ركاب مستعارة! أصبحت الطائرة الرئاسية مثل حمار أحد جيراننا كان بمجرد ان يذهب الى أي مكان يطرد فورا ويعاد الى مكانه، ومن سوء حظ ذاك الحمار أنه كان يحب كل مكان عدا المكان الذي يجب أن يكون فيه! بمثلما ضيّقوا على الناس في معاشهم وحريتهم، ضاقت عليهم حتى السماء وأجوائها بما رحبت. الراحل أحمد الميرغني رئيس مجلس رأس الدولة السابق، رغم أنه محسوب على الطائفية التي كانت دائما جزءا من مشكلة السودان، لكن في كل الاحوال كان الزمن وتيار الوعي المتنامي كفيل بهزيمتها، الطائفية التي أطالت الانقلابات العسكرية من عمرها. ليضيف الانقلاب الإنقاذي أنقلابا وطائفة جديدة الى مشهد مأزوم أصلا. الانقلابات العسكرية كانت دائما طوق نجاة للطائفية حين تواجه بفشلها في دفع إستحقاقات الحكم. ومقصلة لأحلام وطموح شعبنا في الحياة الكريمة. السيد أحمد الميرغني كان رجلا عفيفا، لم يأت للسلطة بالخديعة والانقلاب، ولم يلوّث يديه بدماء أهل وطنه، المؤكد أنه كان يتردد ألف مرة قبل أن يوقع على حكم بالإعدام إستنفد كل فرص التقاضي. لو أن والدة مجدي وقفت ببابه مثلما فعلت بعد سنوات بباب رأس النظام الانقاذي. لفعل السيد أحمد الميرغني كل ما بوسعه لإنقاذ حياة إبنها حتى لو لم يكن رأسا للدولة. لم يقسم السيد أحمد الميرغني أن القوات الدولية لن تدخل وطنه ثم يشغل نفسه بشئ ما حتى يبدو وكأنه لا يرى القوات الدولية التي عبرت من تحت أنفه! لم يصف السيد أحمد أية إنسان بالحشرة، ولم يرقص على رؤوس الأشهاد على إيقاع نقارة الحرب والدمار الذي عم الوطن من أقصاه الى أدناه. لم يرسل السيد أحمد الميرغني طائرات الانتينوف تدك البيوت والكهوف فوق رؤوس أهلها الذين قنعوا من غنيمة الوطن بكهف يحمي أطفالهم الحفاة العراة المحرومين من الحقوق التي تضمنها الدولة التي تحترم مواطنيها من تعليم وعلاج وأمان. ومن قال أنه توجد دولة؟ الدولة نفسها في الأسر مثلها مثل المواطن المقهور الذي حرمه النظام من حقوقه ويطارده في معاشه بل حتى في روحه، يريده أن يحارب في حروب عبثية ضد أبناء الوطن نفسه، ليدفع ضريبة بقاء النظام في السلطة، نفس النظام الذي جرّده من كل شئ! وستدور الأيام، ويصبح رأس النظام الانقلابي مطلوبا للمثول أمام العدالة الدولية. وسيختفي من كانوا يتباكون على سقوط هيبة السلطة لدرجة أن ترفض مالطا زيارة السيد الرئيس، الآن لا يستطيع رأس النظام أن يسافر الى أية مكان دون أن تتعهد عدة حكومات (بعدد الدول التي سيعبرها الطائر الرئاسي الميمون) أنها لن تسلمه الى العدالة الدولية! لا يستطيع أن يذهب الى مالطا ولا حتى ليؤذن (حتى وإن وجدت وظيفة مؤذّن شاغرة)، والا ستنتهي رحلته الجهادية في لاهاي، وبئس المصير! www.ahmadalmalik.com