التاريخ لا أخلاق له ولا عقيدة ولا لون سياسي. التاريخ يجب أن يدرس كما هو دون تزيين أو تحقير، دون إضافة أو نقصان وإلا أصبح مجرد قصص جوفاء لا قيمة علمية لها. مجرد قصص للتسلية كالتي تعج بها مناهج التاريخ التي درسناها ولا زال أبناؤنا يدرسونها في المدراس. من هذا المنطلق أعتقد أن شهادة الفريق الفاتح عروة التي شرع في تسجيلها في حلقات فيديو هي شهادة ذات قيمة تاريخية كبيرة. يكتسب حديث اللواء الفاتح عروة أهمية خاصة لكونه تقلد مواقع مهمة خلال فترة حكم الرئيس نميري و نظام الإنقاذ كضابط في القوات المسلحة ثم في جهاز الأمن الوطني وكسفير للسودان لدى الأممالمتحدة. الفاتح عروة رجل تختلف الآراء حوله. اتهمه البعض بأنه عميل أمريكي بسب دوره في قضية ترحيل الفلاشا في عهد الرئيس نميري في الثمانينات، بنما صنفه آخرون على أنه إسلامي واتهموه بأن قام بتسريب تفاصيل هذه العملية للإسلاميين، وهو يقول عن نفسه أنه رجل مهني وأنه مبدأه كان العمل لصالح مؤسسات الدولة أيا كانت عقيدة النظام الحاكم السياسية. كشف اللواء الفاتح عروة في معرض سرده المثير عن حقائق مهمة كان لها علاقة وثيقة بما آل إليه حال السودان اليوم وبالحرب الطاحنة التي تدور في أرجاءه. ست نقاط أساسية سلط عليها اللواء الفاتح عروة الضوء في هذا الحلقة الافتتاحية: – ملابسات تكوين الدعم السريع وكيف تطورت العلاقة بينه وبين الجيش من علاقة تبعية إلى علاقة ندية ثم صدامية انتهت بالحرب. – علاقة الدعم السريع بفاغنر ودور عمر البشير في ذلك. – الطفرة الكبيرة التي حدث في مقدرات الجيش خلال عهد الإنقاذ وتحوله من جيش يفتقد أفراده للزي المحترم إلى تصدير السلاح. – الملابسات التي صاحبت تعيين حميدتي في المجلس العسكري بعد ثورة ديسمبر 2019 ومعارضة بعض الضباط لذلك التعيين. – الخطاً الفادح الذي ارتكبته الإنقاذ في السماح للدعم السريع بإنشاء علاقات مباشرة مع جهات خارجية. – موقف حركات دارفور المسلحة، تحديداً العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، من الحرب التي تدور الآن. في البداية يبرر الفريق الفاتح عروة تكوين الدعم السريع قائلاً أن حكومة الإنقاذ في بداية أحداث دارفور لجأت إلى الاستعانة بقوات حرس الحدود بقيادة موسى هلال لمساندة القوات المسلحة التي كانت منهكة من حرب الجنوب وتواجه صعوبة كبيرة في حسم حركات التمرد في دارفور. إلا أن هذه القوات غير المنضبطة تسببت في مشاكل كبيرة وتورطت في انتهاكات جسيمة في دارفور وخرجت عن سيطرة قائدها موسى هلال. ذلك دفع الحكومة لأن تتجه لتكوين قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي وبعض القادة المنشقين من موسى هلال. لم تكترث قيادة الإنقاذ لمعارضة بعض كبار ضباط الجيش الذين كانوا يخشون خروج تلك القوات عن سيطرة الجيش، ومضت قدماً في مشروعها بل قامت بمنح الدعم السريع صبغة شرعية عبر سن قانون الدعم السريع في 2017 الذي يعترف بهذه القوات كقوات نظامية مساندة للقوات المسلحة. ويعتقد الفاتح عروة أن الجيش استطاع أن يبقي على الدعم السريع تحت دائرة سيطرته حتى 2019. إلا أن قيادة هذا الجيش ارتكبت خطأين نتج عنهما فقدان هذه السيطرة أولهما هو مشاركة الدعم السريع في حرب اليمن وفتح قنوات اتصال مباشرة لهذه المؤسسة مع قوى خارجية تقوم بدعمها وتسليحها. أما الخطأ الثاني والفادح فكان تعيين حميدتي نائباً لرئيس المجلس العسكري في 2019. هذا التعيين، الذي كان جزاء الضباط الذين عارضوه الفصل من الخدمة، هو الذي فتح شهية الدعم السريع للسلطة و شجعه على التطاول والتنمر على القوات المسلحة السودانية ومنحه سلطات كبيرة وصفة سيادية مكنته من تسليح نفسه عبر جهات خارجية بشكل شرعي وتحت سمع وبصر السلطة. حتى ذلك الوقت، لم يكن عدد أفراد الدعم يزد عن عشرين ألف مقاتل موجودين في دارفور باستثناء القوات التي كانت في معسكر الجيلي. إلا أن أخطر معلومة كشف عنها الفاتح عروة، رغم أنها معلومة معروفة ولكن لأول مرة يتم تأكيدها بصورة صريحة من قبل رجل كان جزء من النظام، هي تولي شركة فاغنر تدريب وتسليح الدعم السريع بترتيب من الرئيس عمر البشير نفسه. وبعد أن كان هذ التعامل بين فاغنر والدعم السريع يتم عبر الجيش، تحول لعلاقة مباشرة بينهما. قدم الفاتح عروة مقارنة بين حال الجيش السوداني في 1989 عند انقلاب الإنقاذ وما وصل إليه وقت قيام ثورة ديسمبر 2019 قائلاً أن الجيش في 1989 كان يفتقر لكل شيء من ذخائر الكلاشنكوف حتى قذائف الطائرات. بل أن أفراد الجيش كان ينقصهم الزي اللائق. كان الحصار الدولي يمنع وصول أي إمدادات للجيش. الصين هي الدولة الوحيدة التي تحدت هذا الحصار واستمرت في إمداد الجيش بالذخائر والمعدات. وفي 2019 كانت الصورة مغايرة تماماً. تطور التصنيع الحربي وأصبح قادراً على تلبية كل احتياجات السودان ليس من الذخائر فحسب بل من القذائف الثقيلة والمدفعيات الصاروخية وأسلحة الكلاشنكوف التي كان الفائض من إنتاجها يصدر للدول المجاورة، والمسيرات والدبابات. ويؤكد الفاتح عروة أن ذلك التطور في قدرات الجيش هو الذي مكن الجيش من التصدي للدعم السريع في الحرب التي تدور رحاها الآن على الرغم من التضييق الذي تعرضت له المؤسسة العسكرية ومنظومة التصنيع الحربي خلال الفترة الانتقالية. ويستدل الفاتح عروة في ذلك بالقفزة الكبيرة التي حدثت في سلاح الطيران قائلاً أنه في وقت من الأوقات فاق عدد الطيارين الذي تم تأهيلهم وتدريبهم في الجيش إجمالي عدد الطيارين الذين عملوا في سلاح الجو السوداني منذ استقلال السودان في 1956. عن مآلات الحرب الدائرة الآن يعتقد الفاتح عروة أن قيادة الجيش ليس أمامها أي خيار سوى الانتصار والقضاء على الدعم السريع لأن أي مهادنة أو تسوية معه لن تكون مقبولة لا من قبل الشعب ولا من قبل الجيش. هذه الحرب الحتمية كان الفاتح عروة يتوقع نشوبها منذ عامين ولكنها تأخرت وهذا التأخير زاد من كلفتها حسب رأيه. وعن إمكانية كسب الدعم السريع للمعركة، وهو افتراض مستبعد حسب قوله، فإن ذلك ستكون له نتائج كارثة قد ينتج عنها تفتيت السودان إلى دويلات. فالدعم السريع لن يتمكن من بسط سيطرته على دارفور دع عنك حكم السودان بأكمله. ذلك مناف للفكرة الشائعة أن قوات الدعم السريع تتمتع بحاضنة شعبية في دارفور. يعتقد الفاتح عروة أن سيطرة الدعم السريع في إقليم دارفور في الفترة السابقة كانت بفضل دعم السلطة المركزية له وأن ميزان القوى تغير الآن في دارفور وأصبحت معظم مناطق دارفور مؤمنة من قبل حركتي العدل والمساواة و حركة تحرير السودان. هاتان الحركتان لم تنساقا للكثير من الإغراءات من قبل بعض القوى الخارجية لحملهما على الانقلاب على سلطة الخرطوم. ذلك يفسر عجز الدعم السريع عن القيام بأي عمل عسكري حاسم في دارفور باستثناء منطقة المساليت التي تعتبر إحدى نقاط الضعف القليلة في هذا الإقليم. طلية حديثه كان الفاتح عروة حريصاً على التركيز على فكرة أن القوات المسلحة هي الجهة الوحيدة في هذا البلد التي تعمل بشكل مؤسسي وأنه مهما حدث وأياً كانت المآخذ على هذه المؤسسة فإن التفريط فيها يعني التفريط في وجود السودان كدولة. المعز الحسن