كتب المؤرخ السياسي البريطاني «صديق السودان « غراهام توماس كتابا مصورا عن سيرة الامام الراحل عبد الرحمن المهدي اختار له اسم «موت حلم « وزعت نسخ منه في الثمانينيات في السودان، يحكي عن سيرة الامام الراحل ودوره من اجل تحقيق الاستقلال موثقا ذلك بالصورة والوثيقة ، ويخلص الكاتب إلى أن موت الامام الراحل وهو يعلم مكنون أحلامه وآماله شكل بالنسبة له موت حلم حقيقي . أحلام كثيرة تحققت وأحلام كثيرة ماتت في قارعة الطريق منذ ذلك التاريخ إلا ان أكبر حلم يموت هذه الأيام بالنسبة للشماليين المنتمين للحركة الشعبية بعد موت الدكتور جون قرنق هو تحول الحركة الشعبية من حركة وحدوية ناضلت ضمن القوى السياسية السودانية لأكثر من عقد ومهرت معها مواثيق الوحدة والعمل من أجل تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية المتصالحة مع كل الأديان والثقافات، تحولها إلى حركة انفصالية تلملم أطرافها صوب الجنوب وترفع راياتها وتحرق كل شعاراتها السابقة ولا يستحي زعيمها وريث قرنق أن يعلن ومن حوله أركان قيادته أنه سيصوت للانفصال وان أي إبطاء عن ذلك الاستحقاق دونه الويل والثبور وعظائم الأمور . وليس أسوأ من موت الشعارات إلا مايتعرض له الشماليون المنتمون إلى الحركة من حالة دوار سياسي هذه الأيام بين موت حلمهم في الحفاظ على الوحدة وشعارات السودان الجديد التي برروا بها انتماءهم للحركة ،وبين دعوتهم ومعاضدتهم ومساندتهم ضمن سياق الحركة التنظيمي لممارسة الحركة لحقها في الانفصال مرفقا بالمبررات . وإن أعتبر الانفصال موت «حلم سريري» في حد ذاته منذ مقدمات ماشاكوس التي قادت إلى نتائجها ،فإن موت شعارات ونظرية السودان الجديد التي بشر بها قرنق وحشد لها الأطراف وطائفة من الشماليين الذين فتنوا به ، شكل موتا معنويا قاسيا عليهم وعلى تلك الأحلام بغض النظر عن فحوى تلك النظرية ومدى اختلافنا أواتفاقنا معها . وأعجب من بعض أولئك الذين يتحدثون من حواريي الحركة الشماليين بانهم سيشكلون حزبا فيلقا للحركة الشعبية في الشمال لاستعادة الوحدة، وماتنفك قيادة الحركة في اعلى مستوياتها تردد بأن ميلاد دولة الجنوب الجديدة هو نتاج نضال استمر لأكثر من 50 عاما ضد هيمنة الشمال انجاز لن يفرطوا فيه ودونه الموت على حد تعبيرهم ، ومامن جزء انفصل وأقام دولته وتمتع بموارده المستقلة سيعود من جديد لينضم ضمن دولة أم ، سيما وأن مايحيط بالجنوب كحالة خاصة من أطماع داخلية وخارجية ومحاذير دولية واقليمية ومواجهات محتملة سيجعل من العودة أمرا سهلا إلا في خيال المريدين من متصوفة الشعارات . ولعل توجهات الحركة الحالية وتصريحاتها وسلوكها السياسي الدافع نحو الانفصال بشراهة سياسية تفتقر حتى على أدبيات الدبلوماسية العامة مع الوطن الأم ومكوناته السياسية والاجتماعية ، مقرونا بقراءة الأطماع والتدخلات الخارجية والتطلعات الذاتية لقادة الحركة يجعل من أول يوم لاعلان دولة الانفصال يوم حداد رئيسي على شعارات السودان الجديد ونظريات الراحل قرنق الوحدوية المعلنة وأحلام من انساقوا وراء الحركة لبريق تلك الشعارات . سيكون صعبا جدا على الشماليين المنتمين للحركة في مختلف ربوع السودان شماله وغربه وشرقه ووسطه ممن يستوعبون حجم هذه المفارقة أن يحتملوا اعلان الانفصال وقيام دولة في الجنوب . وذلك بالطبع دون غيرهم من المواطنين الذين منهم من يعتقد منذ البداية أن شعارات قرنق هي مجرد شعارات مرحلية لكسب الوقت ، ومنهم من يعتقد أنها مطية لأفرقة السودان وتفريغه من انتماءاته العربية والاسلامية ومنهم من يراه صادقا فيما يطرح . وعلى هؤلاء الإخوة ومنهم مخلصون في دوافعهم أن يرجعوا البصر كرتين وأن يعيدوا قراءة المقدمات والنتائج وأن ينصب دورهم في ضمان قيام علاقات آمنة ومخارج آمنة لمأذق منطقة أبيي ومناطق التماس وعلاقات المستقبل في المناطق الحدودية بحق ذلك الحلم الذي جمعهم مع أطروحات قرنق بدلا من انتهاح سياسة الخوض مع الخائضين في الدفاع عن أهداف وسياسات الانفصاليين في الحركة حتى لا يحسب ذلك الخوض خصما عليهم في ميزان اعمالهم . وعليهم أيضا ان يجدوا صيغة للتفاعل الانساني مع الجنوبيين الوحدويين الذين غلبت عليهم شقوة المتنفذين الانفصاليين والتواصل معهم من أجل تشكيل فرق إطفاء سياسي واجتماعي عبر الحدود لأي حريق سياسي ينشب هنا او هناك لحراسة الأمن والعيش المشترك . عليهم أيضا أن يطوروا مايعتقدون فيه من افكار لرتق وتقوية النسيج االوطني والمساهمة في ذلك عبر كيان وطني مستقل لتعميق مفاهيم دولة المواطنة في ربوع السودان المختلفة ، دون أن يرهنوا انفسهم لحركة ستتحول إلى دولة وحزب حاكم وفقا للقانون الدولي لها خططها ومصالحها واجندتها وصراعها العلني والمستتر مع محيطها الاقليمي ، ستفكر حتما بطريقة مختلفة عن كونها حركة سياسية كانت جزءا من وطن ام خلعت نفسها عنه بشهادة دولية واستنصار خارجي لاجدال فيه . ترى كيف سيفكر هؤلاء وأولئك في هذه المرحلة الحرجة وكيف سيؤبنون احلامهم الموءودة ؟ لعل الجميع في انتظار خطاب جديد ورؤية جديدة من هؤلاء الاخوة وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب. واشنطون