شب وترعرع ومنذ نعومة أظافره كانت كل حركاته وسكناته توحي بأنه على عجل من أمره وانه سيودع هذه الفانية لدار الخلود في وقت مبكر جداً.. كان هذا الشاب الوضي "معتز" طفلاً وديعاً حاد الذكاء يميل منذ بدء حياته للصمت والتأمل والاستغراق، كان قليل الكلام ويخاطب بميزان دقيق وعقل راجح يتكلم بأناة وصوت خفيض وأدب جم.. أدب العلماء.. وأهل الصلاح كان يعطي جليسه الامان ويشعر بقربه بطمأنينة عجيبة.. كان وهو يخطو نحو الرجولة تتجسد بداخله وتتشكل فيه كل معاني الإنسانية السامية.. كان "معتز" بهي الطلعة والطلة.. ناضر الوجه.. ناصع الجبين مشرق القسمات والبسمات.. قال لي أحدهم أيام المأتم.. "المرقو من العين يمرقو من القلب" قلت له وأنا مفجوع بفقده.. لكن حب "معتز" ترسخ وتجذر عميقاً عميقاً في قلوبنا.. بل احتلها بالكامل والتصق بها بحميمية عجيبة.. فكيف الفكاك؟ بل كيف المغادرة و"معتز" ظل على الدوام يبذر فينا بذرة الخير والمحبة والالفة لسنين عدداً.. وعند ما كاد زرعه أن يضنج ويستوى وكانت أمه "سعدية" تتأهب هي الأخرى لتزفه "عريساً" يملأ الكون كله فرحاً وحبوراً متوجاً بالحريرة والضريرة.. وقبل تلك بشهور معدودات فاجأها البحر وبإصرار وعناد غيبه بين أمواجه العاتيات وتركها يفترسها الألم القاتل ويعتصرها بشدة "ويهري" منها الكبد والفؤاد.. هكذا انتقاه حمام الموت وسلب "سعدية" غرة عينها "معتز" لقد اختار الموت وبعناية فائقة واسطة عقدهم وانفرط العقد وقذف ببقية اخوته ونثرهم كاللؤلؤ المكنون على قارعة الطريق الموحش الكئيب.. ولم يئس الموت اقرانه من العائلة الكبيرة وأصدقاءه وزملاءه حيث ركلهم جميعاً كحبيبات الرمل الناصعة البياض حيث التصقت بطين الأرض الشديد السواد واختلط حابلهم بنابلهم وانخرط الكل وسبح في بحر من الدموع المنهمرة والتي لا سبيل لايقافها. قلت: بموت "معتز" حلت الكارثة والتي تطورت بسرعة مذهلة لفيجعة بل لزلزال مهول ومدمر.. كاد لهوله أن ينتزع قشرة الأرض من تحت أقدامنا المهترئة والمرتجفة حد التمزق والتلاشي.. ويا سبحان الله الحي الدائم.. عندها خلت أن الكوكب المجهول المرتقب والذي سيهدد سكان الأرض.. خلته قد وصل للتو والحين.!! بل خلت ان طوفان سيدنا نوح قد بدأ يطرق بشدة وعنف على جميع سواحل البحار والمحيطات.. كنت ممسكاً ويقوة بوالده "الزين" وكان يقاومني بشدة وبقوة خارقة.. هي حتماً ليست قوة جسده المنهك الممزق بوخزات مرض السكر اللعين.. كانت قوة مستمدة من ضربات هول الصدمة وشراستها.. ويا سبحان الله الواحد القهار.. كان "الزين" يبكي فلذة كبده بحرقة ويناديه بقوة "وا معتزاه.. وا معتزاه" أن تعال يا معتز ولكن هيهات.!! يصرخ ويقول لي.. أحمد البحر ما بتكاتل.. أكان بتكاتل بنازله بي سيفي وأكتلو.. واشرب ماءه ودمه.. البحر يا أحمد ما بتصارع، كان يتصارع كنت صرعته وقتلته.. وكنت أنا ممزقاً حتى العظم وتائهاً تماماً.. وكنت أشعر بأن الزمن قد توقف تماماً وكنت اسمع بوضوح عراك شوكتي الساعة وصريرهما كزمجرة الرعود الصادرة!! والد "معتز" حملني وحلق بي عالياً خارج نطاق الجاذبية الأرضية، إلى عالم مجهول شديد العتمة والظلمة والكآبة، كنت ومنذ الصعقة الأولى قد عصبت رأسه بشدة وظللت أقذف بتركيز وبتصويب جيد ب(لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون).. كنت أقذف وباستمرار بآيات الله الساطعات البينات داخل أذنيه كليهما.. علها تتنزل عليه برداً وسلاماً وتطفئ هذا الحريق الهائل بداخله. كنت كمن كان ممسكاً ببركان ثائر وغاضب يقذف بالحمم في كل الاتجاهات بلا مبالاة وبلا تركيز.. وكان قدري أن احتضن هذا البركان والذي لا حول لي ولا قوة به ولا لأي بشر كان.. كنت أحس بأن كبده قد تفحمت تماماً، ولولا لطف المولي عز وجل وكلماته التامات لهلك هذا الشيخ "السبعيني" والتي قضي جلها كفاحاً ونضالاً لتربية هؤلاء الفتية النواضر الذين كان "معتز" تاجهم وقائدهم ورائدهم ومصدر فخرهم وإعزازهم والذي سقط من بين أيديهم كقطعة الماس النادرة الغالية. نسألك يا أرحم الراحمين أن تتقبل ابننا وعزيزنا "معتز" قبولاً حسناً وتحشره مع الصديقين والشهداء ومع زمرة حبيبك المصطفى "صلى الله عليه وسلم" حول الكوثر.. إنك على كل شيء قدير.. ولا حول ولا قوة إلا بك. أحمد الطيب الأمين الكاملين العبدلاب