يقول الله تعالى: (...لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) صدق الله العظيم. وكذلك نقول إن الحكومة لو أنفقت ما في الأرض جميعاً لما استطاعت التأليف بين فئات الشعب السوداني حولها، ولما جمعت التأييد التام لها مثلما انعقد هذه الأيام، والسبب هو احتلال مدينة هجليج من قبل عصابة الحركة الشعبية ومن ثم تحريرها بواسطة جنودنا الأشاوس لهم التحية والإجلال. والمتتبع لمجريات الأحداث الأخيرة ولا سيما المسيرة العفوية التي خرجت فور سماع بيان تحرير هجليج يلاحظ أن هذه الجموع خرجت دون تعبئة منظمة، ولم تحضر اللجان الشعبية لهم العربات لحشدهم، ولا استنفرتهم قواعد المؤتمر الوطني بالأحياء، ولا عبر قيادات العمل النقابي بالمؤسسات والمصالح، بل خرجت هذه الجموع من تلقاء أنفسها استشعاراً منها للواجب الوطني فرحة بهذه الانتصار الكبير الذي هو ملك لكل الشعب السوداني، ولم تعتبره انتصاراً يخص المؤتمر الوطني وكوادره، وقد تمعنت وتفرست جيداً في تلك الوجوه التي تقاطرت صوب القيادة العامة في عصر تلك الجمعة المباركة - حيث كنت حاضراً عن قرب – فلم أجدهم هم كوادر المؤتمر الوطني المنعمين ولا أتباع المعارضة المترفعين، بل كانوا أهالي مناطق الحاج يوسف وأمبدات والكلاكلات والثورات والدروشاب، رجالاً ونساءً شيباً وشباباً من المساكين الكادحين أهل البوش والسخينة وأم رقيقة، وفيهم من لا يستطيع توفير وجبات ثلاث لأطفاله، وفيهم الأرملة التي امتهنت بيع الشاي لتربية أيتامها، وفيهم الطالب الذي لا يقوى على دفع نفقات تعليمه فترك جامعته ليعمل ويساعد أسرته، وفيهم من والده بالمستشفى لا يجد سبيلاً لدفع تكاليف علاجه، وفيهم من يلاحقه صاحب المنزل لعدم دفع الإيجار عدة شهور، بل فيهم بائع الماء الذي كان يوزع الماء مجاناً فرحاً بهذا الانتصار، كل هؤلاء لم يفكروا في ظروفهم الطاحنة ولا حياتهم القاسية التي يكابدونها، وإنما كان تفكيرهم في تلك اللحظة في هذا الوطن الكبير حيث كان همهم الأول أن يقولوا للجميع حكومة ومعارضة نحن وطنيون وأنتم لستم أكثر وطنية منا. لذلك نقول لأولياء أمرنا رعاتنا أمام الله تعالى: ألا يستحق هؤلاء الكادحون نظرة عطف منكم؟ ألا يستحق هذا الشعب الطيب معاملة إحسانية وأكثر إنسانية؟ ألا يستحق عم التوم وخالة ستنا وحبوبة أم النصر وجدو العبيد أن نخاف الله فيهم؟ إن هذا الشعب سادتي أولي الأمر لا يستحق والله كل هذه البهدلة، فبالله عليكم ارفعوا المعاناة عن كاهله وليس على كاهله، وخففوا عليه ولا تخفوا عليه، فهذا الشعب هو المعلم الأول للوطنية، وهو الرائد في الصبر، والسباق إلى ميادين القتال، فلولا دعم هذا الشعب الصابر الأبي لما انتصر جنودنا البواسل في معركة الكرامة، لأنهم كانوا واثقين من أن وراءهم شعبا لا يساوم في وطنيته، ولا يبيع وطنه مقابل نعيم زائل مهما ذاق من محن وويلات وشظف في العيش. أتمنى أن تعي حكومتنا الرشيدة هذا الدرس البليغ في الوطنية من هذا الشعب المعلم، وعليها أن تغتنم هذه السانحة التي لا أظن أنها ستكرر مرة أخرى، وأن تكرس جهودها في هذه الفترة لتوحيد الجبهة الداخلية بمد أيديها لكافة ألوان الطيف السياسي، التي أثبتت وطنيتها الخالصة في هذه الملحمة بالوقوف خلف النظام الحاكم صفاً واحداً ضد شراذمة الحركة الشعبية، حتى الذين شذوا عن الإجماع الوطني لا أحسب أنهم قد فعلوا ذلك عن خيانة وطنية كما تقول الحكومة، بل فعلوه نكاية في المؤتمر الوطني ومن قبيل المكايدات السياسية ليس إلا، لأننا لا نشكك في وطنية أحد وكل أحزابنا السياسية تتمتع بالحس الوطني، لذلك على الحكومة الآن أن تفعل برنامج الوفاق الوطني بصورة أكثر جدية من ذي قبل حتى نستطيع الخروج من هذا النفق المظلم، فالفرصة الآن سانحة أكثر من أي وقت مضى في ظل الروح الوطنية العالية السائدة وذلك من أجل توحيد الكلمة وجمع الصف الوطني والوصول بأمتنا إلى بر الأمان في ظل تكالب الأكلة على قصعتنا.