د. الوليد آدم مادبو في ذلك الصباح الذي بدا كأنه لا يريد أن يُشرق، كان السودانُ يختبرُ أشدَّ لحظاته وجعًا. لم يكن الفجرُ فجرًا، بل رمادًا يتسلل من بين الأصابع. أفاق الناسُ على خبرٍ لا يُصدّق: *قُتل ناظر المجانين وصحبه الميامين!* تردّد الصوت في الأودية والبيوت كما لو أن *صدى الطلقة* لم يخرج من بندقيةٍ واحدة، بل من قلب الوطن نفسه. لم يكن مقتلُه حدثًا في دفتر الحرب، بل مأتمًا في ذاكرة البلاد؛ إذ لم يُقتل رجلٌ فحسب، بل كاد أن ينطفئ ضوءُ الحكمة في أرضٍ أنهكها الصراع وأعياها الغدر. في المدن والمهجر، من الدوحة إلى الرياض فأبوظبي، *هرع السودانيون بالعزاء لا بدافع القرابة، بل بدافع الفطرة* التي جعلتهم يشعرون أن الرجل الذي سقط هناك، في البعيد، لعله كان آخرُ مَن يقف بين الوطن وسقوطه التام. كان الناظرُ في نظرهم أكثر من زعيمٍ قبلي؛ كان نُقطةَ التقاءٍ بين الذاكرة والكرامة، بين ما تبقّى من النُبل وما يُهدّد بالبوار. أُغتيل الناظر لأنهم خافوا من الكلمة التي تلمُّ الشعث، ومن المهابة التي تردع الفتنة قبل أن تُطلّ وبعد أن أطلت. *لكنّهم، وهم يظنون أنهم انتصروا، أيقظوا في الناس وعيًا كان نائمًا*: أن الحرب لم تعد بين جيشٍ وميليشيا، كما يُقال في نشرات الأخبار الباردة، بل بين شعبٍ يُراد له أن يُباد روحيًا وفئةٍ من الطفيليين الذين استثمروا في الخراب حتى صار الخرابُ رأسَ مالهم الوحيد. تدفقت الناس إلى ساحات العزاء، بعضهم لا يعرف المجانين ولا نسبهم، لكنّ الفجيعة جمعتهم على إدراكٍ واحد: أن *الغدرَ في السودان خطيئةٌ لا تُغتفر*، وأنّ استباحةَ النفس المؤمنة طعنةٌ في قلب الأمة. كان الحزن عميقًا لأنه جاء من جهةٍ لم يكن يُنتظر منها إلا الحماية. فحتى العصابةُ العسكرية التي أطلقت يدَ القتلة أحسّت بالخطر، إذ بدا الجرمُ أكبرَ من قدرتهم على التبرير، وأثقلَ من أيّ بياناتٍ جوفاء تُكتب باسم "الوطن". لكنّ الخطر الحقيقي لم يكن في رصاصٍ أُطلق، بل في السكوت الذي يليه. في *العجز عن تسمية الأشياء بأسمائها*، والخوف من مواجهة المجرمين الذين يتوارون خلف شِعار الجيش والوطنية. هكذا يتواصل الخداعُ: يُغتال الشرفُ باسم الجندية، وتُرتكب الخيانةُ باسم الوطن. لقد بات واضحًا أن *المناشدة الأخلاقية لا تكفي*، وأنّ المجتمع المدني — رغم صدقه — عاجزٌ وحده عن اقتلاع الدولة الإخوانية من جذورها. فالصراع لم يعد سياسيًا فحسب، بل وجوديًا وأخلاقيًا في جوهره. ومع ذلك، يظلّ الحذر واجبًا: فالبندقية من دون رؤيةٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ قد تنقلبُ على أصحابها، والإعلام من دون وعيٍ يصبح مدفعيةً في يد الطغاة. إنّ *معركة الوعي* لا تقلُّ شأنًا عن معركة السلاح، بل هي الأصل الذي يوجّه الفعل ويحميه من الانزلاق إلى الفوضى. وفي هذا المنعطف، يدركُ السودانيون أن *استعادة الثورة لا تكون بتكرارها، بل بتصحيح مسارها*. لن يسمحوا بعد اليوم للمتنطعينَ وأنصافِ المثقفينَ أن يتسلّقوا على أكتافِ الشهداء باسم الواقعية أو التوازن السياسي. فالثورة التي لا تحرسها قيمُ العدالة، تفقد معناها. فلا سلامَ من دون عدالةٍ اجتماعية، ولا حريةَ من دون منظومةِ قيمٍ كونية تتجاوزُ الانغلاقَ الديني دون أن تُنكرَ الإيمان، وتُبقي على جذوة الروح دون أن تُسلمها لأسطورةٍ تُخدّرُ الوعي. إنّ مقتل الناظر ليس نهايةَ رجلٍ، بل بدايةُ اختبارٍ لأمةٍ بأكملها: *هل نكتفي بالرثاء، أم نحوّلُ الحزن إلى قوةٍ تُعيدُ للوطنِ هيبته؟* لقد رثى السودانُ نفسه يومَ سقط ناظره، لكنّ الدموعَ — إن أُحسِن توجيهها — قد تصيرُ نارًا تُضيءُ الطريقَ لا رمادًا يبلبلُ الأفق. رحم اللهُ الناظرَ ورفاقه. لقد رحلوا بأجسادهم، لكنّهم تركوا فينا أثرًا لا يُمحى؛ تركوا مرآةً يرى فيها السودانُ وجهه الحقيقي، الضاوي (الناير) والأضلم (المظلم) في آن واحد. وما دام هذا الوعي حيًّا، فلن يموت الوطن — لأنّ من اغتال ناظرَنا، أيقظ فينا البصيرة وحرّك لدينا المشاعر الإنسانية النبيلة.