عرفته خلال ستة عشر عاماً كانت البداية حين قدّم لي عرضاً للعمل رئيساً لتحرير صحيفة السوداني. ترددت قليلاً في قبوله إذ ساورني القلق والريبة من العمل مع رأسمالي مشغول بالرياضة. ظننته واحداً من أولئك الذين تزهو بهم نعمة المال والشهرة غروراً وصلفاً فيعلو بهم الكبر ويزدرون الآخرين. وهؤلاء لا أطيق صحبتهم ولا أحتمل مجلسهم. غير أنّ بعض الأصدقاء أقنعوني بأنني سأعمل مع إنسان استثنائي في خُلقه وتعامله، لن أجد له مثيلاً في مجال عام تزاحمت على ساحاته الضباع والثعالب والثعابين. ومع الأيام وجدتني أمام رجل بصفات نادرة، وابتسامة مشرقة لا تخبو، وتواضع جمّ بعيد عن الصنعة والتكلّف، وحساسية رفيعة في مراعاة مشاعر الناس من دون فرز أو تمييز بين صغير وكبير أو رفيع وبسيط. ولو بدأت أسرد قصصاً من مواقفه في نصرة الضعفاء لما صدقني أحد، ولظنّ بي الظنون، ولأفسدت على الرجل جمال عمله الذي يبتغيه في الخفاء. جمال الوالي إنسان باتساع الخير ورفعة الأدب ورهافة الذوق النبيل، لا يجرح أحداً ولو بكلمة أو تلميح، بل يبرئ الجراح، ويمسح الدموع، ويجبر الخاطر المكسور، ويردّ الظلم بالحكمة والصدق. تلك تربية والده الشيخ محمد عبد الله الوالي، أحد حكماء وأعلام الجزيرة، وغرس أمه الحاجة المرحومة زينب الجاك فضل الله. طاردته الشائعات فلم تلحق به لتُلوِّث جلبابه الناصع البياض، ورمته سهام الحقد والحسد، فتكسّرت النصال على النصال ولم تُصب معدنه الأصيل بأذى بل ارتدت إلى صدور شانئيه. عرفناه عفيفاً شريفاً سليم القلب نقي الوجدان. إذا تحدث صدق، وإذا غضب تسامح، وإذا أخطأ اعتذر، وإذا أعطى بيمينه ليلاً لم تعلم شماله بما فعل في النهار. هذه شهادتنا بما علمنا عنه وما نحن بالغيب عالمين. شهادة للتاريخ في وجه أصحاب الخناجر الطويلة، وأمام الله يوم تبلى السرائر وتنكشف الحقائق ويسقط الزيف. وبمناسبة الشائعة التي راجت عن وفاته نسأل الله أن يمد في عمره ويمنّ عليه بالصحة والعافية والبركة.