(حسن الصفدي – ميدل ايست أونلاين) صارت الفتاوى ألاعيب بيد قارئي الفقه بادئ ذي بدء، ينبغي الانتباه إلى أن عملية الإيهام النفسية في أحوالها كافة، قد عرفها الإنسان منذ مطلع التاريخ، أي منذ بدأ يفكر ويوثّق. بالتالي فإيهام بعض المتفقهين، أي قارئي كتب الفقه، التي دونّها طلاب وتلاميذ أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، كلٌ في مرحلته التاريخية، ولا ننسى واضعي الأسس النظرية لمفهومنا الحالي للتوحيد الغزالي والأشعري والباقلاني والجويني. أقول: إن إيهام أولئك المتفقهين لنا بأنهم يفتون من مطالعاتهم الشخصية، مازال يفعل فعله التاريخي، عند المتعلمين المتلكئين عن استخدام عقولهم في القراءة والتفهّم، قبل الأميين/ العامة الذين لا عتب عليهم. في حين لا يخرج هؤلاء المتفقهين عن أنهم عالة على كتب أئمتنا المنوه عنهم، لا يتورعون عن غمط حقهم بعدم الإشارة إلى صاحب الفتوى الأصيل، وأن المتفقه يقيس على قياس إمامه، بل ويستنكف أحيانا، بالميل إلى التلفيق باستعارة الفتوى من إمام لا يقلده في واقع الحال. وهذا أمر لا يهم غير المطلعين، غير أن له شأنه عند العارفين. لنكتف بتحليل حكاية إرضاع الكبير. فالأصل في مسألة الإرضاع تحريم الزواج بالأصول والفروع المرتبطة به، والفقه دوره التحديد (لا التشريع) فأبو حنيفة يكتفي برضعة، وأخذ الشافعي، بنصف المقدار المذكور في آية منسوخة، بخمس رضعات، وأضاف: مشبعات، في حين يتلاقى المالكي مع الجعفري بأنه رضع حتى اكتسى باللحم والعظم. فأبو حنيفة اهتم بالجانب العاطفي، والآخرين اهتموا بالتحديد الكمي، ولنتذكر المسافة الزمنية بينهم ومن ثم تغيّر أحوال الدولة. في ثنايا البحث في مسائل الإرضاع، ترد رواية عن أمنّا عائشة، أنها كانت ترسل من يريد مقابلتها من الرجال إلى ابنة أختها التي كانت ترضع – في حينه – فيرضع منها وهو الكبير، فتصبح أمنّا عائشة خالته بالرضاع. لنستعرض أولا: سيدتنا عائشة من أمهات المؤمنين بنص قرآني. وليس من الضروري ذكر أن الزواج منهن بعد وفاة الرسول محرّم قطعاً، وبذلك ينتفي جذر ما يُرْعِبُنا به مشايخنا، الذين هم حافظو نصوص بأكثر مما هم مفتون يعملون عقلهم في القضايا الحاضرة، أنما نورده للتأكيد. ثانيا: عائشة أمنّا، فلماذا جعلها خالة! ما فائدة هذا التلبيس؟ من المؤكد أن هذه التساؤلات لن ترضي من يأخذ برواية الآحاد والعنعنات، ما دامت قد رويت، وتفيد في تأكيد وجهة نظره الانتقائية، فهؤلاء لا يهتمون بتاتا لماهية الوجه الحضاري للإسلام. لنلتفت تالياً إلى الوقائع العملية في الوقت الحاضر لفتوى إرضاع الكبير، ولن نستطرد في تفاصيل إجراءات الرضاع التي ينطبق عليها المثل الدارج: “من تحت الدلف لتحت المزراب”. مع كل تلك الفتاوى، المقتبسة، التي أتحفنا بها المتفقهون، منذ مطلع الألفية، يبدو الأمر محتملاً بل وطريفاً أحياناً. غير أننا وقعنا مؤخراً، بعد أحداث الربيع العربي، التي من المفترض أن تزيح سيف الإرهاب عن عاتقنا، بين براثن من لا يخاف الله ولا يرحم العباد. فقد طلع علينا متفقهون يقولون بالقتل والذبح، وهم على كراسيّهم مرتاحين، أو كما يقال “بدم بارد”. يسمون أنفسهم أو يسمونهم دعاة إسلاميين، ولا أحسبهم كذلك، فالآية الكريمة تقول: “وادعُ إِلىْ سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنِة”، وخوطِبَ الرسول “وَلَو كُنْتَ فَظَّاً غَلِيْظَ الْقَلْبِ لانْفَضُوْا مِن حَوْلِكْ”. هؤلاء القائلين بالقتل والذبح – أحدهم يرى “جزمة رئيس جمهورية مصر” أفضل من مخالفيه- ما أراهم إلا فظيعين غلاظ القلوب. وتراهم ينصّبون أنفسهم مفتين والإفتاء يكون تكليفاً من وليّ الأمر. فهو الذي يشهد بصحة معارفه وسلامة مداركه، وكيف لا وهؤلاء المتفقهين يربكون الناس، بتصنعّهم وترداد المحفوظات والمفردات، فيغتروا بمعرفتهم، وقد ذُكِرَ نُظراؤهم وأشباههم من بني إسرائيل في القرآن. وكيف تراهم يعدّون انتخاب واحدٍ من بين آخرين في مركز انتخابي ذي إجراءات عصرية محددة فلا يسمح لأي كان بالاقتراع يعدّون ذلك مبايعة؟! ويحسبون عملية التصويت صفقة يد؟! ألا يشبه هذا قياس البيض على الباذنجان (على رأي ابن حزم)، وأين هم أهل الحل والعقد؟ هل هم مكتب الإرشاد؟! ثم ألا ينتخب الرئيس لمدة محددة؟ وليس حتى الوفاة. من حق هؤلاء المتفقهين أن يعيشوا في فهم عصرهم الخاص بهم، ويتلبسون بلبوسه، أو كما يقال غارقون في أحلام يقظتهم، لكن – فيما يخصنا – ليلزموا حدهم فلا يهدروا دماء الناس – والإسلام في هذا بالغ الوضوح – وليعلموا أن مسافات هذا العصر لا تقاس بالفرسخ، وأحكام رحلات الطائرات والقطارات والحافلات ليست تلك التي لقوافل الجمال، ولا أقول “وقس على ذلك” فكل جديد تُستنبَط أحكامه من واقعه. أما القول: “وأضاف غنيم يجب على المعترضين على الفتوى أن يخرسوا كما يخرسون أمام الدكتور الذي يصف لهم دواء معين فيلتزمون به، مبديًا تعجبه الشديد من اعتراض المواطنين على فتاوى علماء الدين”، المملوءة بالمغالطات، لأن الفتوى ليست دواءً بل حلاً وشتان ما بينهما، والقائل يعلم علم اليقين أن الفتوى ليست ملزمة، الملزم حكم القاضي ولي الأمر يأمر بتنفيذه. كذلك يمكن ألا يرتاح المريض إلى كلام الطبيب وطريقة وصفه الدواء؛ فيذهب إلى طبيب آخر. ألم يُقال: “اختلاف الأئمة رحمة”، فما المانع من أن نختلف، وقد خُلقنا هكذا شكلاً ومضموناَ، وقد نختصم لكننا لا نتعادى فكلنا إخوة، واختلاف الرأي لا يُفسِدُ للود قضية.