تظل العبارة التي أطلقها السيد عمر البشير«الاعتماد على الذات» في اولى جلسات الاتحاد الافريقي وفي دورته الحادية عشر بشرم الشيخ هي المخرج الوحيد من الأزمة التي تعيشها دول القارة الافريقية ولكن السؤال: هل تتمتع هذه الدول بالسيادة الكاملة في اتخاذ قراراتها..؟ وهل المشروع السياسي لكل دولة من هذه الدول من النضوج بحيث يدرك أبعاد المخططات التي تحاك ضده او لغيره وبحيث لا يصبح هو نفسه جزءاً من المخطط..؟ فافريقيا تشهد حروباً وصراعات وتعيش في الفقر وسوء التغذية والبطالة والجهل والمرض مع نمو سكاني هائل.. فما الذي فعله الاتحاد الافريقي لاخماد تلك الحروب والصراعات ولتلك الحالات المأساوية سوى إجراءات ادارية او جملة من القرارات والتوصيات لا تلزم أحداً ولا تغني من جوع. وان كان البعض يذهب ابعد من ذلك عندما يقول ان الاتحاد الافريقي نفسه اصبح أداة لتمرير بعض السياسات الغربية باتخاذه كثيراً من القرارات التي تخدم مصالحها ولاتخدم دوله ويفسر البعض صمته في بعض الامور المهمة اختراقاً استعمارياً فمشاكل افريقيا كلها واوضاعاها المأساوية سببها الغرب والغرب الامريكي والذي استخدمها في تعزيز مصالحه وبسط نفوذه وساهمت تلك الاوضاع والمشاكل في عدم الاستقرار السياسي واعاقت فرص التنمية الحقيقية... ولعل السيد البشير وهو يطالب بتقديم قروض للدول النامية دون شروط سياسية يكون قد وضع يده على الجرح وعرف مكمن الأزمة فمن جهة اراد أن يقول إن سبب مشكلاتنا كلها تلك القروض المشروطة ومن ثم الديون ومن جهة أخرى كأنه اراد ان ينهي عصر تدخل الدول المانحة في شئون الافارقة... فالمساعدات والقروض التي تقدمها المؤسسات المالية الغربية اصبحت وسيلة تتدخل بها في رسم السياسات الاقتصادية في البلدان المستفيدة وهو ما عرف بسياسة الترتيب البنيوي أو اعادة الهيكلة وحين غرقت هذه البلدان بالديون حصلت المؤسسات المالية الغربية على حقوق اضافية في فرض الاملاءات ورسم السياسات الاقتصادية التي حددت لهذه البلدان المدنية مجالات للتنمية لا تتجاوز الحصص في انتاج المواد الأولية المطلوبة في السوق العالمية وبذلك اصبحت اقتصاديات هذه البلدان مجرد توابع لاقتصاد الغرب وتحت عناوين الخروج من الأزمة فرضت المؤسسات المالية املاءات جديدة كخصخصة القطاع العام والتي قذفت الى الشوارع بجحافل اضافية من العاطلين وادت إلى مفاقمة الفوارق الاجتماعية واستغلت دول الغرب هذه المفارقات في اشعال الفتن والحروب.. ولم تكتف الدول الغربية المانحة بذلك وانما قدمت ايدولوجيتها التنموية في شكل نظريات وهو مأزق آخر وقعت فيه دول افريقيا وكانت هذه النظريات تعني في ترجمتها العملية وضع الافارقة في سلسلة من الاشكالات التي تتوالد عن بعضها والتي لا يمكن حلها إلا عن طريق انخراط هذه البلدان اكثر في منظومة الاقتصاد الغربي والذي يمسك الغرب بمفاتيح حركته وسكونه وعلى هذا فقد افترض تعميم الرخاء الذي تنعم به دول الغرب ونشره في ارجاء افريقيا لتحويل بلدانها المتخلفة إلى دول صناعية! وبما ان ظروف الكفاف التي تتسم بها اقتصاديات الدول الافريقية تجعلها عاجزة عن الوفاء بمستلزمات تحقيق التراكم اللازم للتصنيع في فترة زمنية مختصرة.. فالايدلوجية التنموية لم تفشل فقط في إنتشال هذه البلدان من لجج المشاكل التي وجدت نفسها في مواجهتها بل أن هذه الايدلوجية اغرقت تلك البلدان في مشاكل اكثر عمقاً وتعقيداً.. فمن حيث النتائج المشاهدة اسفرت عن تركيز شبكة من المنشآت الخدمية والانتاجية التي تحاكي في مظهرها ما هو موجود في الغرب ولكن هذه المنشآت بقيت عاجزة عن تحقيق التمدد والانتشار اللذين بشرت بهما ايدلوجية التنمية بل ان الذي حدث هو العكس تماماً حيث ظلت تلك المنشآت بمثابة جزر غريبة عن البنية الانتاجية المحلية وتقاليدها وهو ما أدى إلى حالة الازدواج الاقتصادي كما يقول دكتور عبد الوهاب حميد في كتابه التنمية العربية ومدخل المشروعات المشتركة.. والذي يوضح ايضاً أن مأزق هذه النظريات التنموية يكمن في كونها اتخذت من فرضيات علم اقتصاد المجتمعات الغربية سنداً مرجعياً لها ثم عمدت إلى تعميم هذه الفرضيات دون القيام بدراسة متأنية لظروف بلداننا الافريقية ولمدى صلاحية هذه الفرضيات في مثل تلك الظروف. لقد وجد الأفارقة وفي ظل هذه الاوضاع انهم مجرد تابعين للدول الغربية ويجرون اوطانهم وراءها الى هاوية خطيرة إلى حد أن اكثر الدول استقلالية خاضعة للاستعمار الجديد القائم على تقنين خبراتها وفقاً لمتطلبات السوق العالمية واحتياجات الرأسمال الغربي. لقد تلاشت احلام التنمية وانتهت الى طرق دائرية وجميع دول الاتحاد الافريقي مطحونة بأعباء القروض ومحاصرة بقوانين ومنظمات دولية تجعل التنمية في هذه الدول عبارة عن تعزيز لمرافق اقتصاد الغرب بما يعود عليه بالنفع... وإذا كانت التنمية في جوهرها هي عملية تحرير ونهضة حضارية شاملة تقتضي الانعتاق من شبكة علاقات السيطرة والتبعية والعمل على اقامة بنيان اقتصادي وسياسي متوازن يدخل في علاقات التعاون الدولي بندية فهل يستطيع الاتحاد الافريقي ان يحقق تلك التنمية وان يصبح هذا البنيان القوى.. ام انه سيظل خادماً وأداة مطيعة لمصالح الغرب وسياساته؟....