هناك خلف الأزمنة التعيسة تتمدد سيدة في فجوة من كهف الألم تتقلب ذات اليمين وذات الشمال وقد غيّب الموت زوجها، فارتطم صوت الفاجعة في صحوة أيامها مخلفًا وجعًا محمومًا أضرم ناره بين أوردتها، فارقها زوجها صبيّة حسناء؛ فتوشّحت بثوب الحداد وتلفّحت بالسواد وعرّت روحها وجسدها من رونق الحياة، حجبت إشراق الصباحات عن ابنتيها وصغيرها الوحيد، وعاشت معهم منفية الحاضر على ركام الحزن الساكن لكل الأمكنة حولها، وأقسمت أن لا تفتح أبوابها للنور والفرح إلا عندما يبلغ ابنها الصغير سن الرشد الثامنة عشر، وهكذا احترفت صناعة النكد وظلت تربي أبناءها عليه وتعجن خلاياهم بمائه، ففقدوا الدفء والحنان وسارت خطواتهم لاهثة تبحث عن ظل وملاذ، ومرت السنوات بأوزارها المصبوغة بحمرة الشفق، وأيامها المكفهرة الراعدة، وجاءت لحظة ولادة الفرح وكبر الصغير وتأهب لدخول الجامعة؛ وإذا الموت يتبختر من جديد بعنجهية وغرور متحديًا لها حاصدًا رغمًا عنها روح ابنها... يا قلبها الذي تعصف به ريح صرصر عاتية... ويا عمرها الذي تؤدي كل طرقاته إلى رحيل، فمن كانت تعاند هذه السيدة ؟ وماذا جنت من البؤس والشؤم الذي طوقت به حياتها ؟ فقد جلبت لنفسها تعاسة أبدية وظلت قابعة في مكانها ترفض التغير، وتتحجّج بأعذار واهية، هل كانت تخاف المجتمع أم سطوة العادات والتقاليد؟ أم كانت تنتظر تصفيقًا حارًا يغمرها في نهاية المشهد. كثيرٌ منا يتقوقع داخل إطار مشكلته وظروفه، ويصبح عاجزًا عن تحرير ذاته من خيوط الشرنقة، يرفض تغير حاله، ويعزل نفسه عن الآخرين فيصاب بالأمراض والأوهام ويجذب لنفسه المزيد من المشاكل والهموم لأنه لا يفكر إلا بها، وحتى إن أمسكت بأصبعه وقلت له من هنا بداية الطريق لتجاوز العقبات والصعوبات ترفض بوصلته التجاوب مع الاتجاه الصحيح؛ فيركد ويستسهل البقاء في مكانه يحدث نفسه بسلبية ويشعر بالخوف والإحباط . إن طبيعة حياة الإنسان شاقة وفيها مكابدة ولها هدف ورسالة، لذلك فهي تتطلب أولا الثقة بالله عز وجل ثم القوة والمرونة والتفاعل بإيجابية معها، وتحتاج إلى اكتساب مهارات وخبرات جديدة تنقلك إلى المستقبل من خلال ممارسة التغير الذاتي حتى يصبح جزءًا من نسيجك السلوكي تقدم عليه بجسارة وثقة دون تردد غير آبه بالنهايات، فلديك القدرة على البدء مجددًا كلما انتهى بك الطريق، ومن الطبيعي أن يقاوم الإنسان التغير ويرفضه في البداية، ولكن هناك سلاحًا مضادًا مقاومًا وهو نضوج العقل ووعيه والرغبة والقدرة على التحدي، فالحياة جميلة فلنعش فوق سطحها ولنتنفس بعمق روحها.