عرفت بيئة الإقليم في دارفور أنها ذات سِمات قبليّة هشة قابلة للإستثارة والإشتعال بالصراع القبلي وقد ضاعف الجفاف الذي ضرب كامل الساحل الأفريقي من أزمة الموارد وحرّك مجموعات كبيرة من القبائل إلى خارج مناطقها وحواكيرها، تلج إلى سهول أخرى تبحث عن المراعي وموارد المياه، وإذ ظل الصراع في دارفور من تاريخ قديم ينشب بين الرعاة الرحل الذين يقتحمون بحيواناتهم أرض المزارعين الذين ينهضون تلقاءً إلى حماية مزارعهم دفاعاً وقتالاً يتطور من بعد ليأخذ شكلاً قبلياً سافراً تتداعى إليه المكونات القبلية كل جانب فيه يدفع عن سربه ومعشره. لكن د. حسن مكي في قراءته لمجمل المشهد يجد أن النخب الدارفورية لجأت مؤخراً لتحوير هذه الحالة من التنازع القبلي على الموارد وصرفته بتوظيف سياسي دقيق إلى حرب سياسية على الدولة: «هنا جاء التوظيف السياسي للأزمة، فالنخب الدارفورية لاحظت بأنها مهمّشة وأنها بعيدة عن السلطة والثروة، فرأت أنه بدلاً من أن تفنى دارفور في الحروب القبلية لماذا لا توجه الحرب ضد الدولة باعتبارها - حسب رؤيتهم- مركز الشر..» لكن التوظيف السياسي لأزمة الإقليم ما كان له أن ينجح على ذلك النحو إن استبانت السلطة المركزية أن الصراع في دارفور مضى يسفر عن وجه آخر من وجوه أزمة الحكم المركزي مهما عبّر عن ذلك سياسيون ومفكرون سودانيون على نحو ما جاء في خطاب الدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان أمام مؤتمر سدّ كوكا أواسط التسعينيات الذي ضم الحركة الشعبية والتجمع الوطني الديمقراطي: «إن مشكلة السودان تتعلق بالسلطة السياسية لا بالتنوع الثقافي، اعتقد أن مسألة المركزية هي المشكلة الأساسية للسودان.. إن الأنظمة المختلفة منذ الاستقلال التي جاءت ورحلت في الخرطوم فشلت في توفير سمات مشتركة ونموذج وأساس للسودان كدولة...» من بعد جاءت النُذر من داخل ذات الحزب الحاكم في الخرطوم تشي بحالة التذمر لدى أهل دارفور، يستشعرون ظلماً وحيفاً في تمام قسمة السلطة والثروة، فما أكمل المؤتمر العام القومي للمؤتمر الوطني أعماله (1997) حتى تشكل في الخرطوم جسم مطلبي ضم عضوية أبناء دارفور في الحزب الحاكم يسعى لمضاغطة النظام من داخله أملاً في إصلاح كفة التنمية وضمان حصة الإقليم من السلطة والثروة. إذاً فقد بدا التعبير عن مظلمة دارفور احتجاجاتٍ كلها مطلبية محضة تنشُد حق الإقليم في السلطة والثروة، شعاراتٍ ترفعها الحركات المسلحة التي بدأت تتشكل لأول مرة مطلع هذه الألفية فتعلن نزاعات التمرد على السلطة المركزية في الخرطوم لا ترى فيها إلا وريثاً يحمل ذات تركة الإدارة الإستعمارية تعاورتها العهود الوطنية جميعها منذ فجر الإستقلال، تقبض كل السلطة لمركز حكم واحد يخفق في قسمة عادلة لموارد البلاد وتنمية أقاليمها. وإذ أن الصراع الذي انفجر من بعد في صيغة ثورة سياسية بلورتها وقادتها الحركات المسلحة الدارفورية، فقد تقلب ذلك الصراع في تحولات عنيفة بين مد وجزر، قوّة وضعفاً ينتاب تلك الحركات وهي تأتلف وتختلف وتتوحد وتتفرق خلال حربها المتصلة مع السلطة المركزية سوى أن الوقائع على الأرض اليوم تخبر أن الصراع قد عاد على هيئته الأولى اقتتالاً على الموارد والثروات ولكنه هذه المرة ليس صراعاً على المراعي والمياه بين الرعاة والمزارعين وإنما اقتتالاً قبلياً حول المعادن التي أعلن عن اكتشافها في دارفور لا سيما الذهب، وفور ثبوت وجود ذلك المعدن دخلت قبيلتان عربيتان في قتال هو الأعنف من نوعه تنافسان على حيازة مناجم الذهب في كل من السريف وجبل عامر. وفي يناير من هذا العام اندلعت مواجهات عنيفة بين قبيلتي (الرزيقات) و(بني حسين) في سبيل السيطرة على منطقة جبل عامر التي ثبت أنها تضم المئات من مناجم الذهب. ويقول محدثي من إحدى قرى شرق دارفور أن الإقليم يشهد هذه الأثناء أسوأ حالات الإنفلات الأمني منذ بداية الحرب في دارفور رغم انحسار تأثير الحركات المسلحة وانزواء تحركاتها محصورة في المناطق التي تسيطر عليها إلا أن التحرشات القبلية وعصابات النهب المسلح ومجموعات الجنجويد المتفلتة باتت تسيطر على الساحة وتنشر الرعب والفوضى في الأنحاء على نحو ما جرى داخل مدينة نيالا، إفادات شهود العيان من سكان دارفور تعيد إلى الأذهان التقرير الذي كان قد أعده في وقت سابق قائد القوة الدولية المنتشرة في دارفور (رودلف أدادا) وقرأه أمام مجلس الأمن الدولي فقدم من خلاله تشخيصاً للحالة يبدو أنه يطابق ما آلت إليه الأحداث في الفترة الأخيرة في دارفور . جاء في التقرير: «أن الصراع في دارفور في بعض مراحله انتهى أن يكون حرباً يخوضها الجميع، الكل ضد الكل، الحركات المسلحة تقاتل بعضها بعضاً وأطرافاً في القوى الامنية التابعة لحكومة الخرطوم وتقتتل فيما بينها فيما يكافح الجيش السوداني تمرد الحركات المسلحة وجميعهم يقتل المدنيين..» جولات متكررة من (الاضطراب العظيم) تشهده دارفور على مر تاريخها، يقع خلاله بلاء فادح تستباح فيه الاعراض وتسفك الدماء ويقوم الكل يقاتل الكل فيحدث خراب عظيم يعبّر عنه الدرافوريون في بيئتهم المحلية بعبارة (أم كواك) أي الإضطراب العظيم أو الفوضى العارمة، وتشير مراجع التاريخ أن دارفور عرفت أم كواك لأول مرة في أعقاب اجتياح الزبير باشا رحمة لإقليم دارفور سنة (1874) حيث هزم آخر سلاطين الفور إبراهيم قرض في معركة منواشي وقضى على ملكه دون أن يفلح الزبير باشا ومن خلفه الإدارة التركية بالسودان في بسط سيطرتها على الإقليم وفرض الأمن والنظام فغرقت دارفور في فوضى عارمة أهلكت الحرث والنسل وتوالت أهوالها متصلة إلى حين أن اخضعت إدارة الإستعمار الثنائي الإقليم لسلطتها بعد أن هزمت السلطان علي دينار وقوّضت إستقلالية دارفور كمملكة مستقلة وحملتها من ثم لتنضم إلى بقيّة أجزاء السودان تحت حكم الإستعمار الإنجليزي.