هذه دعوة الى تقصير الفترة الإنتقالية والحفاظ على أهم ما أنجزته إتفاقية نيفاشا وهو تحقيق السلام. فبعد تجارب نصف قرن من الزمان توصل السودانيون الى انه لا يمكن فرض الوحدة بالقوة وانه في غياب الإلتزام بها طوعا، فمن الأفضل الإفتراق بأحسان والنظر في كيفية ترتيب الأمور بين الجارين، خاصة وهناك الكثير المشترك بينهما من قضايا يمكن أن تفجر حرب حدود بينهما بصورة تتجاوز ما شهدته الحروب السابقة التي ظلت في نهاية الأمر تمردا داخليا. الفترة الإنتقالية كان يفترض بها أن تضع الأساس للوحدة الطوعية، لكن قعدت بها ثلاثة أسباب رئيسية: مشاكسات الشريكين واستمرار القوى السياسية الشمالية تحديدا في ممارسة المناورات السياسية القصيرة النظر وهدر الوقت والجهد في تجريب المجرب وأعلاء المصالح الشخصية والحزبية، ثم غياب أي شريك سياسي في الجنوب ملتزم بقضية الوحدة وتحمل ولو جزء من المسؤولية عما جرى ويجري في البلاد. وأخيرا غياب الآليات في اتفاقية نيفاشا التي تجعل من العمل من أجل الوحدة الزاميا لا من قبل الشريكين فقط، وأنما بفتح الباب أمام القوى السياسية الأخرى مما يجعل من الوحدة قضية شعبية عامة، وليس أمرا ثنائيا. النقطة الأساسية في تقديري غياب شريك جنوبي ملتزم سياسيا بقضية الوحدة. فالمزاج الجنوبي العام مائل نحو الإنفصال على الأقل وسط القيادات السياسية بدليل أن الدكتور جون قرنق رغم كارزميته ورؤاه الوحدوية أضطر الى الإنحناء أمام هذا التيار ليتم اعتماد خيار حق تقرير المصير في مؤتمر توريت في العام 1994، كما أن فترة السلام القصيرة التي وفرتها اتفاقية أديس ابابا لم تنجح في وضع بنية أساسية قوية للتيار الوحدوي والأحساس بالمواطنة والمساواة يمكن البناء عليها مستقبلا. وأشير هنا الى تجربة شخصية ففي زيارة الى جوبا في أواخر السبعينات التقينا في حفل عشاء مع وكيل لوزارة الإعلام الإقليمية يدعى ريتشارد، ولفت نظري رفضه تناول الكحول لأنه كما قال قيادة رشيدة. والإشارة الى التعميم الذي أصدره وقتها الرئيس الأسبق جعفر النميري الى القيادات العليا في الدولة بعدم تناول الكحول. ورغم ان الجنوبيين كانوا مستثنيين ضمنا من ذلك التوجيه، الا ان أحساس الرجل بالإنتماء جعله يلتزم. وبدلا عن البناء على هذه الأجواء جاءت عملية تدمير إتفاقية أديس أبابا نفسها. وهنا يدخل عامل عدم تحمل الجنوب لأي مسؤولية فيما جرى ويجري. ففي ذات المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه النميري تعديلاته المجهضة لإتفاق أديس أبابا وتقسيم الجنوب كان الى جواره جوزيف لاجو. وقال النميري أنه ولاجو أبرما الأتفاقية معا ويقومان الآن بتعديلها معا. ولم تكن هذه هي المرة الأولى ففي انتخابات 1965 التي جرت بعد ثورة أكتوبر كان الخلاف حول هل تجري إنتخابات جزئية في الجنوب أم لا، ووصل الأمر الى مجلس السيادة المكون من خمسة أعضاء، وكان رأي أثنين مع التأجيل وأثنين مع الأجراء. الصوت الخامس المرجح لأجراء الأنتخابات الجزئية كان صوت لويجي أدوك، الذي جاء مخالفا حتى لرأي حزبه جبهة الجنوب، واستمر الأمر الى أن وصلنا الى إتفاقية السلام وتفسير الحركة الشعبية لمفهوم الوحدة الجاذبة أنه مسؤولية الشمال فقط. الوحدة في نهاية الأمر تحتاج الى طرفين لأنجازها والا أصبحت أمرا مفروضا، والسودان جرب أسلوب الفرض ولم ينجح. في سبتمبر الماضي أجرت المؤسسة البحثية الأمريكية المعهد الديمقراطي إستبيانا في الجنوب والمناطق الثلاث تناول قضايا الإنتخابات وحق تقرير المصير، حيث جاءت نتيجة الإستبيان متسقة مع إستبيان قام به ذات المعهد في العام 2004 وقبل دخول إتفاقية السلام حيز التنفيذ، اذ يعتزم الجنوبيون التصويت لصالح الإنفصال وقد أضافوا الى الأسباب السابقة عن الظلامات التاريخية وسوء المعاملة هذه المرة سببا أضافيا وهو رغبتهم في إدارة مواردهم بأنفسهم. والإشارة فيما يبدو الى النفط والرغبة في السيطرة عليه بنسبة (100 في المائة) بدلا عن (50 في المائة) التي أفرزتها الإتفاقية. يلاحظ في ذلك الإستبيان أيضا انه ورغم عدم رضى الجنوبيين عن مستوى التنمية وغياب الخدمات خاصة على مستوى الأمن، الا انهم في تقييمهم لأداء حكومة الجنوب أعطوها درجة تتراوح بين معقول الى جيد، كما أن إنطباعهم عن سلفا كير كرئيس للحكومة وقائد للجيش الشعبي يبدو جيدا. وقد يكون هذا الإستبيان مصنوعا أو لا يقدم صورة متكاملة كما ترى بعض القوى المنتقدة للحركة وأدائها في الحكم، لكن مواجهته لا تكون بمؤتمر يعقد في الشمال، وأنما وسط الجنوبيين داخل الجنوب ولوضع شعارات الحركة عن التحول الديمقراطي تحت الإختبار. والعمل العام في النهاية ليس سياحة مجانية وإنما تتبعه مخاطر كما حدث في كينيا المجاورة وقبلها زيمبابوي. العائق الرئيسي أمام تقصير الفترة الإنتقالية يتمثل في الإتفاقية التي تنادي بأجراء الإنتخابات أولا، ثم يكون للحكومتين المنتخبتين في الشمال والجنوب إجراء الإستفتاء على حق تقرير المصير. ويلاحظ بداية انه لن يكون أمام الحكومتين أي وقت لإصلاح الوضع أو العمل على جعل الوحدة جاذبة، وأنما فقط تحمل نتيجة أمر أتفق عليه سلفاً وهو اجراء الاستفتاء في موعده بعد نحو ثمانية أشهر. ان الإصرار على اجراء الانتخابات أولا ثم الاستفتاء ينطلق فيما يبدو من الرغبة في أن تتحمل جهة ما ذات تفويض شعبي مسؤولية هذا القرار، هذا الى جانب الالتزام بنصوص الاتفاقية. وهذه التحفظات يمكن معالجتها متى توافرت الارادة السياسية. فالتقيد بالنصوص لن يفيد كثيرا في أمر الإنفصال الذي اتضحت معالمه بصورة جلية، والحكومة المنتخبة التي يفترض أن تجري الاستفتاء يمكن الاستعاضة عنها بوفاق وطني عام حول هذه القضية خاصة وكل القوى السياسية متفقة على حق تقرير المصير. وفي غياب شريك جنوبي ملتزم بقضية الوحدة، فحتى القوى المناوئة للحركة تبدو أقرب الى الانفصال، فأن العلاقات مرشحة للانتقال من أزمة الى أخرى بما يسهم أكثر في تسميم الأجواء بين طرفي البلاد أكثر من طرفي نيفاشا المتشاكسين. وبدلا عن هذا الوضع المأزوم فأن الخيار الأفضل يتمثل في الإتفاق على تقصير الفترة الإنتقالية والوصول الى وفاق سياسي حول وضع تقرير المصير يمكن أن يفتح الباب أمام مستقبل أكثر استقراراً والحفاظ على أغلى إنجاز وهو السلام.