في البدء التحية والإجلال للانسان السوداني، رجالا ونساءً، وهم يهدرون في شوارع المدن في عطبرة والقضارف والرهد أبو دكنة وأم روابة وغيرها تعبيرا عن ضيقهم ذرعا بالحكومة وبسوء إدارتها للشأن العام. وللمهنيين السودانيين رجالا ونساء والجماهير الغفيرة في عاصمة البلاد الخرطوم وهم يتوجهون نحو قصر الحاكم للتعبير بصورة سلمية ديمقراطية متحضرة عن سخطهم على حكومته. فهذا حقٌ يكفله لهم الدستور السوداني. بل هو حقٍ أساسي، تحميه مواثيق حقوق الإنسان العالمية المضمنة في ذات الدستور. ثم أنه لا ينبغي المساس بهذا الحق الأصيل تحت أي ذريعة. وإنما يجب على السلطات الحكومية توفير الحماية للموكب وتحويل حركة السيارات في الطريق الى القصر لإفساح المجال للمسيرة حتى تبلغ مبتغاها المعلوم سلفا للسلطات. ثم على الحاكم مقابلة المسيرة طالما طلب الناس ذلك. فماذا حدث؟ في اليوم المشهود يغادر الرئيس القصر متجها الى ولاية الجزيرة في زيارة تفقدية بغرض افتتاح منشآت أو بغرضٍ آخر لا ندري كنهه. ففي ذلك المسلك تجاهل واضح للموكب والذي يريد القائمون عليه، كما جاء في الإعلام، تسليم سيادته مذكرة مطلبية لا يهم محتواها أيا كان. فغيابه فيه رسالة واضحة تقول لهم أنتم وموكبكم لا تهموني في شئ ولا تستحقون أن أضيع ساعة زمان واحدة في قراءة مذكرتكم المزعومة. فقد جاء في صحيفة (التغيير) الالكترونية يوم 25 ديسمبر 2018 عن تلك الزيارة الخبر الآتي: " صاحب زيارة البشير الى الجزيرة اجراءات أمنية غير مسبوقة حيث رافقته أكثر من (عدد) عربة محملة بالدوشات ومئات الجنود وهدد البشير في خطاب بمدينة رفاعة المتظاهرين بالقمع ووصفهم بالخونة والعملاء ..." انتهي. وكلمة (عدد) التي بين الأقواس لم ترد في الخبر وانما ورد مكانها رقم معلوم من عدة مئات لم نورده ظنا منا أن به خطأٌ طباعي! إذ كيف يمكن لطافم الحراسة لموظف دولة (حتى وإن كان رئيس الجهاز التنفيذي فيها ) أن يشتمل على هذا العدد المهول من العتاد الحربي والجند وكأنه ذاهب لمهمة حربية! فإن صح عدد السيارات والجنود الذي أوردته (التغيير) يصح أن نسأل كم تبلغ احتياجات هذا الجيش الجرار من الخبز والوقود في بلد تعاني شحا وندرة في كليهما؟! وعلى الأرض انتشرت قوات الأمن المدججة بالسيارات المجهزة بالأسلحة في أنحاء العاصمة الخرطوم بهدف واحد وحيد لابد إنه مدعوم بأوامر تنظيمية حاسمة أن يمنعوا هذا الموكب من أن يصل شارع القصر او يقترب من قصر الحاكم والذي يفترض أصلا فيه أن يسمى "قصر الشعب"! بل وربما كانوا مأمورين بأسوأ من ذلك بكثير، لا ندري على وجه الدقة. بيد أن مسلكهم في التعامل مع المتظاهرين بعنف وقسوة مفرطة، شهد بها الكثيرون، يوفر أدلة دامغة على طبيعة ما أُمروا به. فقد جاء في صحيفة سودان تربيون (Sudan Tribune) إشارة لخبر نشرته منظمة العفو الدولية (أمنستي) في موقعها على الانترنت في الصفحة الرئيسية في ذات اليوم، 25 ديسمبر 2018، يقول إن " 37 شخصا قد قتلوا أثناء المظاهرات المناهضة للحكومة التي شهدتها عدد من المناطق في السودان خلال الأسبوع الماضي" انتهي. وفي ذات الخبر جاء أن السيدة سارة جاكسون نائبة رئيس المنظمة لشرق أفريقيا قالت في بيان إنّ " قوات الأمن السودانية تستخدم القوة المميتة دون تفريق ضد متظاهرين غير مسلحين يثير قلقا كبيرا". انتهى. فمن قتل هؤلاء المتظاهرين هذه المرة؟ ومن أعطى الأمر بقتلهم؟ وماهي حقيقة ما جرى؟ أسئلة حارقة تبتغي أجابة طال الزمن أم قصر و"الدم ما ببقى موية" كما تقول العبارة الشعبية. إنّ نهج الحكومة في التعامل مع (الحقوق الأساسية) للمواطنين لم يتغير قيد أنملة عبر ما يقارب الثلاثين عاما من عمرها. بل هي سارحةٌ في حالة أنكار دائمة وهي تستهين دوما بالمطالب المشروعة للناس وتستخف بمن يطالبون بها أو توصفهم بالعمالة والخيانة. الهبة الشعبية في ديسمبر 2018 ليست أمراً عابرا. أبداً. فهي بكل المقاييس أمر جلل تشير الدلائل إنه يتخلق لفعل أكبر وجب على الحاكم وبطانته أن يولوه ما يستحق من تبصر عاقل يحفظ هذا البلد الطيب من أي سوء. فرداء الحاكم لا يستره مهما غلى ثمنه إن هو فقد السلطة الأخلاقية (Moral Authority ) التي التي هي أغلى كساء ولا يمكن شراؤه بأي ثمن؛ بيد أنه يأتي مجانا من رضا الشعب. فبدون هذه السلطة الأخلاقية يقف الحاكم عارياً في أي محفل عام يظهر فيه. وجيوش الحاكم مهما بلغ عددها وعتادها لن تستطيع الزود عنه في وجه هبة الشعب الغاضب. والأمثلة من التاريخ الحديث للمنطقة التي نحن جزء منها سياسيا و جغرافيا حاضرٌ في الأذهان. فالإصرار الأعمى على وأد الإرادة الشعبية خسران مبين بل هو انتحار! وقديما قالوا: رُبّ يومٍ بكيتُ منه فلما صرتُ في غيره بكيتً عليه!! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.