تناولنا في الحلقة الماضية علل هذه العملية الانتخابية ورأي المراقبين الدوليين فيها ومنها بعثة المراقبة العربية الأوربية ، هذه البعثة التي يبدو أن ظروف الإقامة قد طابت لبعض أفرادها بالسودان ليتحولوا إلي محليين سياسيين في القناة الفضائية السودانية مما يفتح المجال مجدداً للتساؤل عن مدى انسجام هذا الأمر مع طبيعة مهامهم الذي تم استقدامهم لأجلها ، أم أن هذا المهام الجديدة تندرج كذلك ضمن العقود السابقة واللاحقة ؟؟! . ونتابع هذه الحلقة بالحديث عن خيارات كافة القوى السياسية للمرحلة المقبلة ونبتدئ بقوى المعارضة الشمالية : فهذه القوى الحزبية بكل أسف ونتيجة لخلل فكري لديها تمكن حزب المؤتمر الوطني في المرحلة السابقة من حبسها في شباك العنكبوت بشغلها بقضايا إجرائية انصرافية بعيدة كل البعد عن أولوياتها ، فضلاً عن هموم جماهير الشعب حتى قادها إلي ما توعدها بها بقبرها الجماعي في سلة واحدة ؟؟ . وبالتالي فهذه القوى إذا أرادت أن يكون لها موطئ قدم في المسرح السياسي القادم فلابد لها أن تتحلل في المقام الأول عن أساليبها القديمة التي تعتمد مبدأ ( التكتيك السياسي بتحين الفرص ) والاستعاضة عن ذلك بمنهج جديد يعتمد نهج ( العمل الاستراتيجي بعيد المدى) وكما يتوجب عليها إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية ببناء كياناتها التنظيمية ورفدها بدماء جديدة تجيد العمل من خلال جماهير الشباب والمرأة ، وكذلك مطلوب منها حصر عضويتها وتفعيلها بالتواصل المباشر المستمر . ومن ثم القيام بإعادة بناء تحالفاتها المستقبلية على أساس استراتيجي متين بعيداً عن تأثيرات مجريات الأحداث السياسية اليومية والمرحلية العارضة . وفي ذلك المسعى عليها أن تتنبه بأنّ حزب المؤتمر الوطني سوف لا يدعها كي تفيق مجدداً عن حالة السبات التخديري المرحلي التي عليها الآن بل سيسعى لإعادة حقنها بمخدرات جديدة من خلال جرها للمشاركة الصورية في حكومتها القادمة وشغلها بمعاركها الخاسرة التي ورطت نفسها فيها ويود إغراق الآخرين معها ، وكما هو معلوم عن براعة عناصر هذا الحزب في هذا المجال . وإذا كانت ثمة ضرورة وطنية للتضحية والمشاركة في أيما حكومة قادمة فيجب أن تكون وفق توافر عناصر أساسية .. أولاً : أن تكون حكومة قومية حقيقية انتقالية ذات برنامج وطني قومي واضح يكون بإمكان جميع المشاركين فيها التأثير الفعلي في قراراتها لمحاولة تدارك ما يمكن تداركها من قضايا البلاد الحرجة وعلى رأسها قضية الجنوب ودارفور . ثانياً : أن لا تكون هذه المشاركة على حساب استعداداتها للمرحلة المقبلة بل يكون بالتوازي معها . بهذه الطريقة يمكن للأحزاب أن تعود قوية مجدداً في المرحلة المقبلة وإلا فسوف تتلاشى تماماً وتحل محلها قوى جديدة . ثانياً: حزب المؤتمر الوطني : أما بالنسبة للمؤتمر الوطني ففي تقديري بأنه على المدى البعيد يعد أكثر الخاسرين سياسياً، فهذا الحزب قد ظل يدير ظهره لنداءات الآخرين وآثر القائمين عليه الهرولة نحو صناعة هذه المهزلة الانتخابية هروباً من المحكمة الجنائية وبحثاً للشرعية المفقودة ، وفي غمرة ذلك الهروب لم يبقوا لأنفسهم مساحة للتراجع و لم يدعوا مجالاً للآخرين لمشاركتهم حمل الهم الثقيل الذي يجابه الوطن في مقبل الأيام ، وقد تمثّل ذلك في رفضهم المستميت لفكرة تأجيل الانتخابات قليلاً حتى تكون دارفور جزءاً أصيلاً فيها بجانب كافة القوى السياسية على الساحة مما كان سيختصر المشوار كثيراً للحكومة القادمة بتقليل خانة التحديات أمامها . أما الآن فأمام حزب المؤتمر الوطني عدة تحديات مطلوب منها مجابهتها لوحدها ، فجميع المواقع التنفيذية والتشريعية القومية والولائية في الدولة باتت تحت أيديهم حسب نتائج انتخاباتهم هذه ، وعلى القارئ الكريم أن يضع في مخيلته شكل البرلمان القادم حيث يجد نواب المؤتمر الوطني أنفسهم أمام وجوه بعضهم البعض ليقرروا مصير البلاد وأمامهم كبريات القضايا مثل قضية الاستفتاء في الجنوب التي لم يتبقى لها سوى بضعة أشهر وكذلك قضية دارفور والمحكمة الجنائية بجانب قضايا الفقر والعوز للمواطن العادي فأنى لحزب المؤتمر الوطني لوحده التصرف حيال هذه القضايا الكبرى ؟؟!. فبشان قضية الجنوب فمن المسّلم به أن الأمور ستمضي حتماً نحو الانفصال في ظل سيادة حكومة المؤتمر الوطني وسياساتها المعهودة ، كون قضية الجنوب لا تقتصر على تقديم الرشى بقيام بضع مشاريع تنموية في الجنوب فحسب وإنما هي قضية تاريخية مزمنة ترتبط في جزء كبير منها بقضية الاعتراف بالمواطنة كأساس للحقوق والواجبات في الدولة ، فهل لدى المؤتمر الوطني ما يقدمها لأهلنا في الجنوب في هذا الجانب الهام أم أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟؟! . ومن هنا كانت الضرورة الحتمية لتوافق وطني جامع يحوي كافة التنظيمات السياسية في السودان لتقديم رؤية حقيقية لسودان جديد يسع كافة أبناءه بمختلف تناقضاتهم العرقية والاثنية والدينية والمذهبية والفكرية والوصول إلي حل نهائي شامل وقاطع بهذا الشأن يتم إهداءه للأجيال القادمة ، وهذا ما لا يمكن لأي حزب كائن من يكن أن يقوم به لوحده . وإن أصّر المؤتمر الوطني المضي في هذا الدرب الشائك لوحده كما هو واضح الآن وكانت النتيجة انفصال الجنوب فان هذا الحدث لوحده كفيل بان يمحو هذا الحزب عن خارطة السياسة السودانية ، فعندئذٍ ستنكشف بطلان كافة الشعارات الزائفة التي ظللنا نسمعها من شاكلة ( رمز وحدة البلاد وسلامة أرضه ) ونحوها .. وإذا كان التاريخ لا يزال يذكر الأحزاب التقليدية ورموزها بأنها قد أتت بالاستقلال وحافظت على وحدة ترابه حتى العام 1989 موعد انقلاب الإنقاذ ، فان التاريخ كذلك سيسجل حزب المؤتمر الوطني ورئيسه بأنه الحزب والزعيم الذي في عهده وبسياساته تم تقسيم البلاد . أما التحدي الثاني أمام المؤتمر الوطني فهي قضية دارفور ، وحالها كحال قضية الجنوب ، فهل بإمكان المؤتمر الوطني الوفاء باستحقاقات هذه القضيبية كاملة ؟؟ أولاً بإكمال منبر الدوحة وتوقيع اتفاق سلام شامل مع قوى المقاومة المسلحة في الإقليم . وثانياً بالوفاء بمستلزمات تلك الاتفاقية . وثالثاً بإعادة إعمار الإقليم وإعادة اللاجئين والنازحين إلي ديارهم وتعويضهم تعويضاً مجزياً وإصلاح النسيج الاجتماعي الذي أفسدوها في دارفور ؟؟ هذه القضايا هل سيتمكن المؤتمر الوطني من الوفاء بها وجعل قضية دارفور في حساب رصيدها القادم أم أننا سنشهد خلال المعركة الانتخابية المقبلة احتدام السجال السياسي حول الوفاء بموعد تقرير المصير لدارفور كحال قضية الجنوب الآن بينما يكون الجنوب قد تحول في ذلك الحين إلي دولة مستقلة ناضجة ضمن دول الجوار الإقليمي الساعية للوساطة في حل قضية دارفور ؟؟ لقد استوقفني كثيراً بشان قضية دارفور تصريحات الدكتور أمين حسن عمر رئيس الوفد التفاوضي للحكومة في مباحثات الدوحة والتي يرفض فيها بشدة وغلظة متناهية فكرة دفع تعويضات نقدية للعائدين من لاجئي ونازحي دارفور مما يعكس عمق الأزمة لدى عناصر هذا الحزب وحقيقة نواياهم تجاه أهل دارفور كون قضية دفع التعويضات النقدية هذه لا تقتصر عند دفع المال لذاته وإنما الغاية منها إعانة المواطن العائد ليبتدئ مشوار حياته الجديدة بمعيناته الذاتية ، فالمواطن الدار فوري كما هو معهود عنه انه مواطن منتج بطبعه ولم يكن يوماً ما عالة على الدولة طيلة تاريخ السودان الماضي لذلك فهو في ظل هذه الظروف الحرجة فقط يحتاج للمعينات الضرورية من البنى الأساسية كالسكن اللائق ومرافق المياه والعلاج والتعليم لأبنائه ومن ثم وجود مبلغ مادي بسيط يبتدئ بها مشوار حياته الجديدة ، عليه فان هذه العناصر تعد متكاملة مع بعضها وإلا فبدون دفع المبالغ المالية فسوف تتحول قرى العودة الطوعية هذه إلي معسكرات إيواء جديدة من نوع خمس نجوم يحتاج فيها الناس لمنظمات الإغاثة الدولية . لذلك فإننا كأبناء للإقليم نؤكد على قضية دفع التعويضات النقدية هذه بجانب مستلزمات إعادة الاعمار الأخرى . أما القضية الثالثة التي تنتظر المؤتمر الوطني فهي قضية محكمة الجنايات الدولية والتي على المؤتمر الوطني مجابهتها لوحدها خلال المرحلة المقبلة علماً بان هذه القضية ترتبط بشكل أساسي ما بحل قضية دارفور ، ويجب على المؤتمر الوطني ألا يغتر بالمواقف الآنية لبعض القوى الغربية حيال الانتخابات الصورية هذه كون تلك المواقف مرتبطة في حقيقتها بقضية الاستفتاء في الجنوب وعندها لكل حادثة حديث . وبكل أسف فقد أضاع المؤتمر الوطني سانحة تاريخية للخروج من هذا المأزق حينما رفضت عرضاً تقدمت به بعض دول الجوار الشقيقة باستضافة ريئيسهم المطلوب للعادلة الدولية على أن تتولى تلك الجهات مهام هذه القضية ، وآثروا المضي في مشوار الانتحار إلي نهايته عبر هذه الانتخابات المزيفة ويبقى السؤال قائماً ثم ماذا بعد ؟؟. نواصل في الحلقة القادمة بعون الله عن خيارات فصائل دارفور والبدائل السياسية في السودان .